للفيلسوف الفرنسى الشهير فولتير، الذى عاش بين نوفمبر 1694 ومايو 1778، أى منذ نهاية القرن السابع عشر حتى الربع الأخير من القرن الثامن عشر، وهى فترة عصر التنوير فى فرنسا، مقولة معروفة صارت - حتى بعد موته - الأكثر دلالة واستخداما من بين مقولات الفلاسفة والمفكرين، للتأكيد على حرية الرأى والتعبير.
يقول فولتير: "قد أختلف معك فى الرأى، لكننى مستعد لأن أدفع حياتى ثمنا لحقك فى التعبير عن رأيك".. كان هذا فى القرن الثامن عشر، والشعوب تتطلع إلى الحرية فى كل شيء، وفى الطليعة منها حرية الرأى والتعبير بكل صورها وأشكالها، حتى نص على ذلك ميثاق الأمم المتحدة وكل المواثيق الدولية والدساتير الوطنية.
رغم ذلك، يبدو أننا نتقدم للخلف فى مسألة احترام الرأى الآخر، مهما بلغت درجة الاختلاف مع صاحبه، بينما نعيش فى القرن الحادى والعشرين، وفى ظل ثورة التكنولوجيا والاتصالات فائقة السرعة. فلم نعد نطيق أن يختلف معنا أحد، ولم نعد نحتمل أن يقول رأيه المخالف لرأينا، ولم نعد نعترف بمواقف تعاكس مواقفنا.
تحولت المسألة إلى عداء. وعلى طريقة الحرب الباردة، ومبدأ إن لم تكن معى فأنت ضدى، نتابع حاليا توسعا فى وسائل التواصل الاجتماعى يحاول قيادة عقل الشعوب، خاصة شعوب العالم الثالث، وهى "مكارثية" جديدة لقمع حرية الرأى، يمارسها الأفراد والعوام ضد المخالفين، ويصل الأمر إلى العداء والتحريض.
هذا ما يحدث حاليا مع الصديق والزميل العزيز، الإعلامى الكبير والكاتب الصحفى إبراهيم عيسى، الذى يتعرض لحملة افتراضية شرسة عبر موقع التواصل، خاصة فيس بوك، لمجرد أنه عبر عن رأيه الموثوق بالمعلومات والدلائل. اختلف ما شئت، لكن لا يمكن أن يكون سلاحك البتار ضد رأى كاتب وإعلامى بحجم إبراهيم عيسى، هو التحريض وحشد جحافل "فيس بوك"، والهجوم عليه بلا عقل أو منطق، وبكل أشكال الهجوم المشروعة وغير المشروعة، وبكلمات وجمل تخالف القانون والقيم الإنسانية، وربما تخالف الدين.
اختلف كيفا شئت، فى حدود أدب الحوار والاختلاف، لكن لا يمكن تهديد شخص وقمعه والتحريض عليه، لمجرد التعبير عن رأيه وموقفه. نعيش للأسف ظاهرة إعلامية خطيرة، حذرنا ونبهنا لها كثيرا من قبل، وهى الانجرار وراء هوس "فيس بوك" وديماجوجية السوشيال ميديا وما تثيره من فوضى وسيولة فى الكلام، وسط سياق يومى يتدافع فيه آلاف الأفراد بدون قوانين أو معايير أو ضوابط.
ليس معقولا، أو مقبولا، فى وطن عرف معنى حرية الرأى والتعبير منذ آلاف السنين، وعرف الصحافة بأشكالها المختلفة منذ نهاية القرن الثامن عشر، أن تقودنا ظواهر غير منضبطة، وأن يلج إليها أصحاب الهوى والجهلة وكل من فى نفسه مرض، مثل فيس بوك وغيره من منصات الواقع الافتراضى، التى لا تحطم أشخاصا فقط، وإنما تدمر دولا ومجتمعات.
من حق إبراهيم عيسى أن يقول رأيه بحرية تامة، ومن حقك أن تختلف معه برأى آخر وفقا لمبادئ ومواثيق مهنية إعلامية تربينا عليها، ثم هناك قوانين يمكن اللجوء إليها. ما حدث من قطاعات جماهيرية افتراضية اعتراضا على رأى "عيسى" يؤكد من جديد أن مرض التعصب ما يزال متجذرا فى النفوس، ويهدد حياتنا إجمالا، وليس الكروية فقط.
إبراهيم عيسى لم يقترف جريمة، وإذا كان قد تجاوز من وجهة نظر بعض العوام، فليكن الخلاف فى إطار حرية الرأى والتعبير، وبالاحتكام إلى الأطر القانونية والمهنية، دون ترهيب أو تخويف وتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور.
هذا التعصب الأعمى المريض، يهدد ما حققناه من نجاحات، وما حاربنا ونحارب من أجله فى سبيل ترسيخ حرية الرأى والتعبير، فى إطار الاحترام والقانون ومعايير المهنة ومواثيق شرفها، بل يُهدد أمننا وسلمنا الاجتماعى.. والمؤكد أنه لا أحد يملك الوصاية على الناس، أو يملك مصادرة آرائهم، وأن مصر فوق الجميع فى كل الأحوال.
لا نريد أن تتحكم فينا عصور الانغلاق والتعصب الكروى، بعدما انتهينا بالكاد من عصر الظلام الفكرى.. فقل رأيك بحرية، ودع غيرك يقول رأيه بحرية أيضا، هذا هو العدل وهذه هى الروح الرياضية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة