أكرم القصاص - علا الشافعي

ناهد صلاح

لمن تقرع أجراس الحب في أفلام الحرب؟

الثلاثاء، 07 سبتمبر 2021 10:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

(1)

 كم  من حرب مر بها هذا العالم؟ وكم من قصة حب قتلتها الحرب أو أحيتها؟ .. هربت من هذا السؤال أكثر من مرة، ثم عدت إليه من تلقاء نفسي في كتابي "أفلام الحب والحرب"، الصادر عن سلسلة الفن السابع بدمشق في العام 2019، حاولت العثور على إجابة من خلال أمثلة لأفلام عالمية من هوليوود، والسينما السوفييتية وكذلك الأوروبية ومختارات أخرى من السينما العربية، كانت قصص الحب فيها خلفية لحروب كبيرة، ومعها تلاقى مزاج ونفسية جماهير متعطشة لأجراس الحب تقرع بدلًا من صوت القذائف.

 بدت السينما الأمريكية هي الأغزر إنتاجًا، كما حضرت الحرب العالمية الثانية بشكل أبرز في أفلام بعضها مقتبس عن روايات أدبية، وجميعها تكشف انعكاسات الحرب وتداعياتها، منها ما تمحور حول الهولوكوست والمحرقة النازية لليهود، ومنها ما اقتنص الـ"أوسكار" وجوائز سينمائية كبرى.

(2)

     "بصراحة يا عزيزتي، أنا لا أجلب اللعنة"، لابد أن شيئًا ما كان في صوت كلارك جيبل وهو يردد عبارته الشهيرة هذه في الفيلم الأشهر "ذهب مع الريح" (1939) إخراج فيكتور فليمنج.. شيء عاطفي جذب الرجال ليقلدونه ويرسمون شاربيه المميزين، وجعل النساء يحلمن به نموذجًا للرجل المقتحم كشخصية "ريت باتر" الذي يواجه سكارليت أوهارا "فيفيان لي" القوية ويفاجئها بقُبلة: "إنكِ بحاجة ماسة للتقبيل، وهذا عيبك، يجب أن يقبلكِ أحدهم دائمًا، وشخص بارع في ذلك".. شيئًا ما يوجد أيضًا عند فيفيان لي "براءة عطر الأنوثة الإنجليزية"، كما وصفها الشاعر الإنجليزي المعروف جون بيتجمان.

    الجميع عاطفيون إزاء الفيلم وقبلته التاريخية، ولم ينتبهوا أبدًا إلى مشهد إحتراق أطلانتا وتفاصيل حرب أهلية تخوض في محيط بطليه المشدودان بخيوط الغرام والجنون، وانعكاسات تلك الحرب على الجنوب الأمريكي، وقضية تحرير العبيد، بل لم يلقوا بالًا لما صرحت به فيفيان لي بعد سنوات من عرضه، بأنها على عكس ما كان باديًا عليها؛ فإنها كانت تشعر بالنفور من قبلات كلارك جيبل، حيث قالت: "تقبيل كلارك جيبل في ذهب مع الريح لم يكن ممتعًا لهذه الدرجة، رائحة طقم أسنانه كانت أمرًا مروعًا!!"، بهذا الشكل تكون قصة الحب هي الحدث الأبرز، وكل ما عداها هي تفاصيل مشتركة وثانوية في ثنايا هذه القصة، ربما كانت نظرة عاطفية من جمهور لا يحب الحرب ولا يحارب الحب، كوسيلة يغتنم بها ساعات هانئة بعيدًا عن هوس يستشري في حياته الواقعية، لكنها تختلف بالتأكيد عن رؤية لم تكن في حسبانهم لمنتج الفيلم ديفيد سيلزنيك؛ حين أجاب الصحافة عندما سألت عن شعوره إزاء الفيلم، قائلاً: "في الظهيرة أعتقد أنه إلهي، وفي منتصف الليل أعتقد أنه تافه. أحيانًا أعتقد أنه أعظم فيلم في التاريخ. لكن، إذا كان مجرد فيلم عظيم فقط، سأظل راضيًا".

    (3)

 الخيط الفاصل بين الحقيقة والوهم في أفلام الحرب، يبدو كالبرق؛ يبزغ فجأة ويجرح الصورة في حكايات تكون أعصف من صواعق المعارك، ثمة حبيبان دائمًا على الشاشة ومتفرج يحبس أنفاسه مترقبًا حضورهما، ويشعر بموسيقى تلفهما في لحظات ذروة الغرام أو التوتر، أكثر من إحساسه بالفزع نحو أصوات المفرقعات وأزيز الرصاص أو صور الموتى والجرحى.

 السينما التقطت هذه الحكايات كأنها البرزخ بين الحياة والموت، وكلما تحررت من استعارات ومشهدية الملاحم الكبرى، واتجهت صوب النزوع الإنساني؛ فإنها تبقى ترفرف بثنائيات العشق في بال الجماهير التي تواطأت مع الخيال وأحبته كما أحبت مثلًا الثنائي الأقدم كليو باترا وأنطونيو اللذان جسدهما اليزابيث تايلور وريتشارد بيرتون عام 1963 في الفيلم ذائع الصيت "كليو باترا" إخراج جوزيف مانكيفيتس، الملكة المصرية القديمة وحبيبها القائد الروماني في إطار ملحمي يغلف واقع المعارك والانتصارات والحب الذي حوّل التفاصيل إلى أسطورة وعنوان خيالي في التاريخ البشري، قصة حب كالنفخ في البوق تُنبه إلى مؤمرات تحيط بالملكة التي كانت آخر الحكام البطالمة في مصر والمعروفة بذكائها وطموحها، قبل وبعد تعارفها على القائد الروماني مارك أنطونيو واشتعال الحب بينهما رصدها الفيلم محورًا لأحداث الحرب والتحالفات داخل الامبراطورية منذ أن أغتيل يوليوس قيصر.

  في فيلم آخر مثل"قلب شجاع" (1995)، إنتاج وإخراج وبطولة ميل جيبسون، يعيد ترميم حكاية الحب التاريخية لكن بالعنف والقسوة، هذه لغته الفنية في التعبير وتقديم صورًا متتالية من اللوعة والألم داخل الصراع الذي يوضح حجم المآسي البشرية والعنف المكرس في الذاكرة ويغلف المشهد والانهيار الإنساني، كما التقطه الفيلم الذي تم ترشيحه لعشر جوائز أوسكار وحصل على خمس من بينها أفضل فيلم وأفضل إخراج، حيث يصور معارك التحرير التي خاضها وليام والاس قائد المقاومة ضد الإنجليز المحتلين لاسكتلندا، على أنها حدثت إنتقاماً لحب وليم والاس بعد ما قتل الانجليز زوجته، وإن حسم صوت الراوي في بداية الفيلم بين خيال الحكي السينمائي ووقائع كتبها المؤرخون البريطانيون حين قال:" سأحكي لكم عن وليم ولاس، مؤرخو إنجلترا سيقولون أنني كاذب، لكن التاريخ يكتبه هؤلاء الذين شنقوا الأبطال".

 التاريخ كان انتقائيًا كذلك في فيلم "طروادة" (2004) إخراج ولفجانج بيتيرسن، حيث استوحى جزءً من الإلياذة، ملحمة الشاعر الإغريقي هوميروس التي تحكي قصة حرب طروادة، حرب خاضها شعبان من أجل الحب، يقول بريام ملك طروادة لابنه باريس الأمير الذي عشق هيلين وتسببت قصة حبهما في هذه الحرب الكبيرة:"خضت حروباً كثيرة في حياتي من اجل الشرف والكرامة والكبرياء وأحياناً السيطرة، لكن الحرب في سبيل الحب تبدو أكثرها منطقية".

  (4)

من هنا يجب ألا ينسينا الحديث عن أشهر قصص الحب، أن هذه الأفلام تنتمي إلى تصنيف سينمائي معروف هو "أفلام الحرب"، يصعب الخوض فيه دون الرجوع إليه عبر تاريخه كله، وعبر تأثره وتأثيره في المجتمع الذي نشأ فيه، لقد تمرست السينما كثيرًا في هذا العالم؛ مدارس متعاقبة وأسماء تتغير وموجات تمر وأفلام تفاجئنا بالزيادة أو النقصان، كذلك تدربت حواس الجماهير على الصور التي إنسلت من الواقع إلى الشاشة وفاضت بحكايات تعيد تكوين المسافة بين الموت والحياة، بل قد تخرج من أنقاض القتال قصة حب تحول مسار العنف إلى شأن أسطوري، تكتمل به جدلية "الحب والحرب" التي أرقت العلماء والفلاسفة وأهل الفن والإبداع، حتى أن الفيلسوف اليوناني هيراقليطس مثلًا يزهو بالحرب ويمجدها، فيقول: "الحرب ربة الأشياء" في كتاب "جدل الحب والحرب"، ويضع سيجموند فرويد تطبيقاته عنها متجاوزًا التقنيات السيكولوجية إلى آفاق أرحب في كتابه "الحب والحرب والحضارة والموت"، مستكملًا ما بدأه في كتابه "أفكار لأزمنة الحرب والموت" الذي يطرح آراؤه الفلسفية فى الحرب والحب، في سبعة أبحاث كتبها فى فترة الحرب العالمية الأولى، وفيها تحليله النفسي لظاهرتى الحرب والموت وما بينهما من حزن ومرض وألم وانهيار فردى وجماعى.

    انعكست هذه الجدلية أيضًا في الأدب؛ يقول عنترة بن شداد في معلقته: وَلَقَد ذَكَرتُكِ والرِّماحُ نَواهِلٌ  - مِنّي وبِيضُ الهِندِ تَقطُرُ مِن دَمي

فَوَدَدتُ تَقبيلَ السُيوفِ لأَنَّها - لَمَعَت كَبارِقِ ثَغرِكِ المُتَبَسِّمِ

بينما زخرت الرواية بنصوص عدة، نهلت السينما العالمية وقدمت أفلامًا عن تلك العلاقة الملتبسة بين الحب والحرب، الشيء وضده.. الحرب هي الغواية إذن والتشبث بالحياة هو الاختيار، القتلى في الحرب منسيون، والعشاق في السينما عشب الحكايات.

  (5)

سينما الحرب هي بشكل أو أخر إبنة المتغيرات العالمية بكل ثقلها، لم تكن مجرد إنجاز سينمائي تم بضربة حظ أو صدفة عمياء، السرديات الكبرى في أفلام عرضت الحروب سواء بأسلوب ملحمي يستعرض العمليات العسكرية في مشهدية ضخمة للصراع بين الجيوش الكبيرة، أو بمنحى إنساني يدوّن تنويعات درامية وعاطفية وتاريخية تتعلق بأجواء الحرب والمعارك.. سينما اتخذت سيرة الحرب لتنسج أحداثها ربما للتوثيق خوفًا من النسيان أو التراكم الذي يخفي أي أثر.

    سينما الحروب الأهلية، الحرب العالمية الأولى أو الثانية، حرب فيتنام، حرب الخليج والحروب الحديثة، وليس مستغربًا أن أغلب هذه الأفلام تنتمي إلى السينما الأمريكية، فإنها قد استطاعت على صعيد آخر أن تصنع  النموذج الأمريكي، فكل ما هو أمريكي براق والأعين تحدق باستسلام نحو هذه الشهب المتطايرة على الشاشة؛ وإن كانت فيما بعد استطاعت إن تدرك الفارق بين سحر فريد إستر وعنف سيلفستر ستالوني، بينما نلاحظ أن الاتحاد السوفياتي في زمنه كان من كبار منتجي الأفلام عن الحرب بمعايير قد تبدو متشابهة مع النموذج الأمريكي في فكرة التحدي والقوة لتبرز الصراع بين قطبي العالم؛ الشرقي والغربي، لكن الطريقة مختلفة تلائم التخديم على أهدافه الوطنية كما حددها، ونلحظها كملمح بارز في تاريخ السينما السوفيتية ومسارها؛ وكما قدمها في البدايات فيلم مثل "المدمرة بوتمكين" (1925) للمخرج سيرجي أيزنشتاين، كان قاعدة لسينما تنهض بأقصى ما استطاعت من بلاغة جديدة في الشكل والموضوع.

   على أية حال فإن الصراع بين المعسكرين: الشرقي والغربي، لم يعن كثيرًا للسينما الأوروبية التي ركزت على الأحوال الإنسانية في ظل الحربين: الأولى والثانية وكيف تنشأ علاقات إنسانية رافضة القتل الذي انفتح مداه وخلف الخراب، الإنسان هو الموضوع وليس الحرب هو ما يمكن أن نراه على سبيل المثال في الفيلم الفرنسي "الوهم الكبير" (1937) إخراج جان رينوار، والفيلم الإيطالي "روما مدينة مفتوحة" 1944 الذي أخرجه روبرتو روسليني مشاركًا فيلليني في كتابة السيناريو، النماذج حاضرة أيضًا في السينما اليابانية والصينية والتركية، كل يقدمها بطريقته وأسلوبه.

   (6)

 تعددت الأفلام إذن في صحبة الحروب، وتعددت كذلك الصور الرومانسية، ربما كرد طبيعي تجاه العنف والقتل، فكما نشأت الوجودية كرد فعل على كوابيس الحرب العالمية الثانية وعبثية عدم وجود معنى للحياة في ظل القلق من الفناء الشامل نتيجة الحرب والذي يسمونه العدم، هيأت السينما نفسها لموجة من الأفلام الرومانسية، لذا لا نندهش حين نعرف أن أجمل الأفلام الرومانسية ظهرت إبان الحرب، فإذا كان فيلم مثل "مرتفعات ويذرنج"(1939) إخراج ويليام وايلر، الرواية الوحيدة لإيميلي برونتي، ظل كثيرًا يداعب المخيلة الرومانسية للجماهير، فإن فيلم مثل "كازابلانكا"(1942) إخراج مايكل كورتيز؛ إختار إيقاعًا مختلفًا للرومانسية منحه مكانة أسطورية، وكذلك فعل فيلم "جسر ووتر لو" (1940) إخراج ميرفين ليروي الذي اقتبست عنه السينما المصرية فيلم "دايماً في قلبي" (1946) إخراج صلاح أبو سيف.

وإذا كان فيلم "أطول يوم في التاريخ" (1962) إخراج والمأخوذ عن كتاب المؤلف كورنيليس ريان، من أبرز الأفلام التي تناولت الحرب العالمية الثانية، فإن الذاكرة السينمائية تحمل العديد من أفلام هذه الحرب بتيمات مختلفة، يبق منها ما قدم تأملات إنسانية عميقة ومنها فيلم "الخط الأحمر الرفيع" (1998) إخراج تيرانس ماليك، والمزيد من أفلام  تركت تأثيرها في وجدان متفرج لن ينسى أبدًا تلك الدموع المعلقة في عين سبارتكوس وهو مصلوب يتابع زوجته وطفله الرضيع وقد نالا نعمة الحرية، كما ظهر في الفيلم الذي أنتجه وقام ببطولته كيرك دوجلاس عام 1960 وأخرجه ستانلي كوبريك، وكتب السيناريو دالتون ترامبو عن رواية هوارد فاست، وحمل اسم البطل سبارتكوس الذي قال: "لا" في وجه الامبراطورية الرومانية.

 (7)

 ظِل الحرب العالمية الثانية في مصر نلمحه أيضًا في أفلام قدمتها السينما المصرية مثل "السوق السوداء" (1945) إخراج كامل التلمساني، و"خان الخليلي" (1966) إخراج عاطف سالم عن رواية نجيب محفوظ، وإسكندرية ليه" (1978)، بينما كانت فلسطين هي الموضوع الرئيسي في أفلام عربية دارت عن الحروب، إذا جاز لنا أن نصفها كأفلام حربية؛ لا سيما وأنها تنويعات على المفهوم العام للفيلم الحربي، مع أنه تكاد تكون السينما المصرية والسورية هما الأكثر إهتمامًا بالموضوع الفلسطيني وحرب 1948 قبل أن تزدهر فيما بعد السينما الفلسطينية، لكن حتى المصرية والسورية لازال عندهما قصور ما في تقديم أفلام عن حرب أكتوبر 1973 مثلًا كنموذج للصراع العربي الاسرائيلي.










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة