بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952 أدرك زعيمها وقائدها جمال عبد الناصر معنى وقيمة ما يسمى بـ "القوى الناعمة" لمصر الثورة ودولة يوليو الجديدة.
وهو المصطلح الذي صاغه البروفيسير جوزيف ناي الأستاذ بجامعة هارفارد في كتابه الصادر عام 2004 بعنوان "القوة الناعمة: وسائل النجاح في السياسة الدولية"، وهو المصطلح الذي يستخدم حالياً على نطاق واسع في الشؤون الدولية من قبل المحللين والسياسيين.
أدرك عبد الناصر – الذي نحتفل بمرور 104 عاما على مولده- أن مصر يوليو ليس لديها القوة الصلبة للسيطرة والاستحواذ لتحقيق حلم الوحدة العربية وانما لديها الكنز الذي لا ينضب أبدا من علماءها ومثقفيها ومبدعيها وفنانيها والتي يمكن أن تبقى بهذا الكنز" قوى عظمى إقليمية " دون إطلاق رصاصة أو دانة مدفع أو صاروخ طائرة
ربما طبيعته الشخصية ووجدانه المبدع كان وراء هذا الاهتمام بالقوى الناعمة لمصر وربما أيضا لدراساته الاستراتيجية وقراءاته واهتماماته الفنية وخاصة عشقه للسينما والغناء والتصوير.
لا ينسى عبد الناصر ذلك الرجل المغربي العجوز الذي اعترض موكبه مع الملك الحسن الثاني في الدار البيضاء خلال زيارته للمغرب عام 1960 وصافحه وقال له:" سيدي الرئيس هل يمكن أن توصل سلامي للفنان إسماعيل ياسين...!!". تلك الرسالة الترحيبية التي تلقاها ناصر من مواطن مغربي لأشهر فنان كوميدي في الوطن العربي وقتها، أكدت سلامة تقديره وصحة موقفه من أهمية القوى الناعمة للفن قبل نصف قرن تقريبا من البروفيسور جوزيف ناي.
هنا نكتشف طبيعة العلاقة القوية التي ربطت بين زعيم والعلماء والفنانين والمثقفين منذ سنوات الثورة الأولى.. ففي عام 54 بدأ تدشين عيد العلم لتكريم العلماء والفنانين والكتاب والأدباء بصورة جديدة وكان الرئيس عبد الناصر يحرص دائما على حضوره والتحدث أمام الحضور فيه وبداية من عام 58 تقرر تغيير موعد عيد العلم إلى 21 ديسمبر، وهو تاريخ افتتاح جامعة القاهرة في عام 1908، بعد أن كان في الملكية يقام في 16 أغسطس من كل عام.
واحتفي ناصر وكرم طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم وكبار الفنانين ومنهم أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وبليغ حمدي والموجي ويوسف وهبي وغيرهم من الفنانين والعلماء الذين لهم بصمة وتأثير في المجتمع المصري والعربي
قبل ثورة يوليو كانت لزعيم الثورة المصرية الأم ميول أدبية وثقافية وفنية علاوة على الكاريزما السياسية والشخصية القيادية. كان يخصص جزءا من أمواله عندما كان طالبا لشراء الكتب، وكان عاشقا للسينما، لدرجة جعلت خروجته الرئيسية مع زوجته الذهاب للسينما -تزوجا عام 1944- إضافة إلى أنه كان متابعا جيدا للدراما.
سلاح العلم والفن والسياسة وظفه عبد النار لتحقيق الحلم كجزء من مشروع القوى الناعمة والتأثير في المحيط العربي والأفريقي وحتى الأوروبي، لذلك ارتبط بعلاقات صداقة مع كبار الفنانين المصريين والعرب وتعددت اللقاءات بينه وبينهم، بل تعدى الأمر الى وزيارته شخصيا الى منازلهم...! حيث كانت تربط أم كلثوم بأسرة الزعيم صداقة، ويناديها أبناء الزعيم بـ«طنط سوما»، وكانت متواجدة في كل المناسبات وأعياد الميلاد.
وكان عبد الناصر، يدندن صباحا بأغنيات أم كلثوم بعد أن يستيقظ مبكرا، وعندما يبدأ يومه وتحديدا يوم الجمعة كان يستمع لأم كلثوم في الراديو، وكان الأطفال مولعون بعبد الحليم حافظ، خاصة أغنياته الوطنية، التي كانوا ينتظرونها في أعياد الثورة كل عام، حيث كان عبد الحليم حافظ يمثل حينها جيل الشباب، وكانت أعياد الثورة مناسبة لمشاهدته، والجلوس معه.
ناصر المؤمن بدور الفن في تثوير المجتمع وتنمية وعيه وادراكه وقياداته نحو الأفضل هو من قام بالصلح بين أم كلثوم وعبد الوهاب لينتج عن الصلح تحفة غنائية اسمها " انت عمري" ثم درر آخري في "انت الحب" وأمل حياتي وهذه ليلتي وغدا ألقاك" وفكروني وغيرها من الأغاني التي سيطرت على وجدان أمة كاملة من المحيط الى الخليج
ومن ينسى الموقف الغريب لأحد ضباط الثورة الذين تولى مسئولية الإذاعة عقب الثورة ومنعه إذاعة أم كلثوم على اعتبار انها من العصر البائد وغنت للملك، وعندما يصل الأمر إلى عبد الناصر، غضب بشدة بل قام بتعنيف من أصدر هذا القرار قائلا: "معنى هذا أن نقوم بهدم أهراماتنا الثلاثة، أم كلثوم هي الهرم الرابع في مصر"، وذهب إليها على رأس وفد من أعضاء مجلس قيادة الثورة، وهم المشير عامر وصلاح سالم لإقناعها بالعدول عن قرارها، وكانت لهذه اللحظة أثر كبير عند كوكب الشرق، فغنت له أكثر من أغنية منها "يا جمال يا مثال الوطنية.. أجمل أعيادنا الوطنية برئاستك للجمهورية"، وفي عيد العلم منحها عبد الناصر قلادة الجمهورية، وذلك بعد تبرعها لتسليح الجيش المصري بمبلغ 10 آلاف جنيه، وهو مبلغ كبير آنذاك
وعقب نكسة 67 يتصل بها ليقنعها بالتراجع عن الاعتزال بعد اتهامها من بعض الأقلام بأنها كانت أحد أسباب الهزيمة وتعود أم كلثوم بأغنية رائعة من ألحان السنباطي وكلمات عبد الوهاب محمد " دوس على كل الصعب وسير"
علاقته بحليم –صوت الثورة الحقيقي – ربما تختلف عن باقي الفنانين فقد وجد في صوته ضالته التي يمكن أن يحول بها ثورة يوليو ومبادئها وأحلامها الى كلمات مغناه. فمن كان يتصور أن تأتي كلمات مثل الاشتراكية والتصنيع الثقيل والثورة الكبرى وغيرها في أغاني حليم ويرددها وراءه البسطاء من الحالمين بالتغيير والمؤمنين بثورة يوليو وزعيمها. ويظن كثير من النقاد أن ناصر نظر الى حليم نظرة الاب الى الابن وليس الفنان فقط ولذلك كرمه ومنحه أوسمة التقدير مرات عديدة
وكما زار أم كلثوم في منزلها، زار حليم في شقته في يوليو63 بعد أن أصيب العندليب الأسمر بنزيف حاد فور انتهائه من أغنية " المسئولية" من ألحان كمال الطويل وكلمات صلاح جاهين وعندما علم الزعيم عبد الناصر بذلك، قرر أن يطمئن عليه وعلى صحته ويقوم بزيارة مفاجئة له بمنزله بالزمالك، ويدق جرس الباب ليفتح السفرجي عبد الرحيم ليجد آخر شخصية يتوقع أن يراها أمامه.. إنه الزعيم جمال عبد الناصر.
وقبل أن يهم حليم بالنهوض من فراشه، أسرع عبد الناصر إلى غرفة نومه وقال له بصوت حنون هادئ "خليك في سريرك"، ثم سحب مقعدا ليجلس عليه بجواره وقال له "يا حليم إنت تلم نفسك وتسافر للعلاج ولما ترجع لنا بالسلامة تتفق مع جاهين والطويل وتملوا لنا 28 أغنية صغيرة بعدد حروف اللغة العربية لأن التليفزيون دخل بلادنا ولسه في ناس مش عارفة تقرا ولا تكتب، ويمكن لما تعملوا أغاني الناس تقبل على محو أميتها".
عبد الناصر كان من أشد المعجبين بفن فريد الأطرش، فقد كانت شخصيته وطبيعته وأسلوبه في الحياة تجعل عبد الناصر مستمعا محبا لفن فريد الأطرش، ففي أول محطة وثقت لتلك العلاقة في عام 1955، عندما أنهى فريد الأطرش تصوير فيلمه "عهد الهوى" كان من عاداته أن يحضر افتتاح العرض الأول للفيلم، إلا أن ذبحة صدرية داهمته وألزمته الفراش وأصبح من المستحيل أن يحضر افتتاح الفيلم، الذي كان من المقرر أن يقام بسينما "ديانا" في 7 فبراير عام 1955.
فأمسك فريد القلم وهو في مستشفاه وكتب لعبد الناصر قائلا: "لقد عودت جمهوري أن أحضر افتتاح أفلامي، وأريد من سيادتك الحضور نيابة عني واستقبال جمهوري".
وحكى فؤاد الأطرش عن هذه الواقعة قائلا: "لقد اعتبرت هذا التصرف من فريد دربا من الجنون وتوقعت اعتقالنا أو ترحلينا، إلا أن عبد الناصر في لفتة إنسانية تعبر عن تقدير كبير للموسيقار، قام بحضور العرض هو وأعضاء مجلس قيادة الثورة".
وبعد ثورة 23 يوليو أصبح الذهاب إلى السينما أمرا صعبا، فاضطر إلى الاستعانة بجهاز سينما في المنزل، وتم نصبها في مكان واسع في المنزل، وبعد أن نقل الرئيس إلى منزل أكبر، تم تخصيص غرفة للسينما.
كان عبد الناصر مولعا بالأفلام ذات الطابع التاريخي، وكذلك الأفلام الرومانسية، والأكشن، وخاصة بعد ظهور سلسلة جيمس بوند، التي حرص على متابعتها، حيث كانت السينما المتنفس للزعيم في الظل الضغوط والصراعات حوله، إلى جانب حبه لأفلام إسماعيل ياسين، وحضر العرض الخاص لفيلم إسماعيل ياسين في الأسطول. كان عبد الناصر حريصا أيضا على دعم علاقاته بالفنانين الآخرين، فقد اتصل بالفنان الكبير فريد شوقي وطالبه بالإسراع في تصوير فيلم "بورسعيد" الذي جسد مقاومة أهل وشعب بورسعيد ضد العدوان الثلاثي
أنشأ مؤسسة السينما، التي قدمت أهم 100 فيلم فى السينما المصرية من أجل تقديم أفلام تاريخية، مثل فيلم الناصر صلاح الدين، ودعم المسرح القومي لتقديم عروض مهمة تساهم في ظهور فنانين مميزين، بعد تجديده.
وشهدت الحركة المسرحية المصرية نهضة حقيقية في تلك الفترة، وتأسست العديد من الفرق المسرحية وأنشأ هيئة المسرح التى كان بها 20 فرقة مسرحية، ولمعت عشرات الأسماء لكتاب ومخرجين وممثلين تركوا بصماتهم الواضحة في تاريخ فن المسرح في مصر، على رأسهم عبد الرحمن الشرقاوي، ونعمان عاشور، ويوسف إدريس، وصلاح عبد الصبور، وألفريد فرج، وميخائيل رومان
إنشاء أكاديمية الفنون، عام 1969، كان واحدا من أهم إنجازات "ناصر"، فهي أول جامعة لتعليم الفنون ذات طبيعة منفردة في الوطن العربي، حيث تضم المعاهد العليا للمسرح والسينما والنقد والبالية والموسيقى والفنون الشعبية.
كما تم تأسيس فرق دار الأوبرا المختلفة مثل أوركسترا القاهرة السيمفوني، وفرق الموسيقي العربية، والسيرك القومي ومسرح العرائس، والاهتمام بدور النشر، كإنشاء المكتبة الثقافية، التي كانت النبتة الأساسية لمشروع مكتبة الأسرة، فضلا عن رعاية الآثار والمتاحف ودعم المؤسسات الثقافية، والسماح بإنتاج أفلام من قصص الأدب المصري الأصيل بعد أن كانت تعتمد على الاقتباس من القصص والأفلام الأجنبية.
ويعد أحد أبرز إنجازات الثورة في مجال الإعلام، إنشاء التليفزيون المصري، حيث أصدر الرئيس قرارا به عام 1959، ليبدأ البث في 21 يوليو 1960 في الاحتفالات بالعام الثامن للثورة.
كان مدركا أن الفن شيء مهم جدا، ويعبر عن ضمير المجتمع وما يدور بداخله، وكان يعلم أن الفن شيء مكلف، وبالتالي من سيسيطر على الفن وعلى الأفكار في الفن، من لديهم الأموال، وأن هؤلاء لن يعبروا عما يدور في المجتمع، بل سيعبرون عن رغباتهم ورؤيتهم، لذلك بدأ يدعم الفن بطريقته الخاصة،
موقفه المحب للفن والمقدر لقيمته وأهميته هو موقف الدولة بأكملها. الفن عنده كان توجها عاما لا يقل أهمية وحيوية عن مشروعات التنمية الآخرى والمشروعات القومية الكبرى. فمن يبني المكان لابد أن يبني الانسان الذي سيحافظ على هذا المكان ويدافع عنه بإيمان ووطنية وما أفضل شيء يبنى الانسان ووعيه وادراكه الا الفن العمود الأساسي من أعمدة البيت الكبير والوطن الأكبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة