صدر حديثًا عن المركز القومى للترجمة برئاسة الدكتورة كرمة سامى الطبعة العربية من كتاب"ما بعد التاريخ: الخيال التاريخى فى أوروبا القرن التاسع عشر" لهايدن وايت، ومن ترجمة شريف يونس، والمقرر عرضه فى جناح المركز بمعرض القاهرة الدولى للكتاب بدروته الـ 53.
وجاء فى فى عرض للكتاب يقدمه الدكتور شريف يونس مترجم الكتاب : هذا الكتاب شكل ثورة فى رؤيتنا للدراسات التاريخية، بأن قدّم رؤية عن الكتابة التاريخية تنفى عنها إمكانية تقديم الماضى بشكل موضوعي، وتُدرج الكتابات التاريخية فى باب الأدب لا فى باب العلم، بهذه الرؤية تحدى الكتاب وما زال مهنة التاريخ، يرى وايت أن المؤرخ يصنع من الماضى سرديات ذات معنى، ولأنها سرديات فإن بنيتها لغوية وبلاغية.
تنصب هذه الرؤية على الكتابة الحديثة للتاريخ، فهى لا تتناول كتابة التاريخ فى العصور الوسطى بطريقة الحوليات، لكن بالطريقة التى نعرفها الآن، وهى كتابة بحث تاريخى عن موضوع معين، ليكن مثلا انهيار الإمبراطورية الرومانية أو تطور الزراعة فى العصور الوسطى أو نشأة فكرة التقدم فى العصر الحديث.
يرى وايت أن المؤرخ حين يتعامل مع المصادر يختار موضوعا له بداية ونهاية، ويختار الوقائع التى يعتبرها دالة، ويضع هذا كله فى صورة سرد متسلسل، وهذا كله فى إطار تصور مسبق للحقل التاريخي، تصور غير واعى يسميه "شعرية التاريخ"، فالمؤرخ مدفوع فى هذا الوضع، وفقا لوايت، للاختيار بين أنماط محدودة للسرد تفرضها طبيعة عملية السرد نفسها، هذه الاختيارات جمالية، تنقسم إلى أنماط الدراما البسيطة الكلاسيكية: الرومانس والتراجيديا والكوميديا والسخرية.
ليس الجديد فى طرح وايت هو القول بأن الكتابة التاريخية فن، بل فى تحديده لبنية هذه الكتابة وتصنيف الكتابات التاريخية وفقا لأنماط أربعة، سواء على مستوى نوعية الحجج التى يستعملها المؤرخ، أو نوع الدراما، أو نوع المجاز الشعري، أو نوع الأيديولوجيا. وهو يقسم الأيديولوجيات إلى أربعة أنواع، يتناسب كل نوع منها مع نوع أو نوعين من جماليات الكتابة التاريخية المذكورة من قبل. هذه الأيديولوجيات هي: الفوضوية (وقد تكون متفائلة يوتوبية أو تشاؤمية ديستوبية) والجذرية والمحافِظة والليبرالية.
كما يرى وايت أن كل نوع منها له نفس الكفاءة فى التعامل مع مادة التاريخ الأصلية، ولا نستطيع أن نعتبر أى نوع منها أكثر "حقيقية" من غيره، لكننا يمكن أن نفضل نوع أو أكثر منها بناء شكله الجمالى (نمط المجاز أو الحبكة الدرامية)، أو مضمونه الأيديولوجي، لا يدعو المؤلف من خلال رؤيته هذه إلى إلغاء كتابة التاريخ باعتبارها غير موضوعية، بل يدعو بالعكس إلى توسيع مداها، فهو يعيب على الكتابة التاريخية الأكاديمية أنها استبعدت نوعين على الأقل من جماليات الكتابة التاريخية، هما الرومانس والتراجيديا، وأنها أصبحت بذلك تتخذ مظهر الموضوعية المحايد واللا مبالي، الأمر الذى يفصلها عن المجال الثقافى العام ويقتل إمكانياتها الأيديولوجية أو الأخلاقية.
لكن ما بعد التاريخ ليس مجرد كتاب نظري، فمعظم صفحاته مخصصة لتطبيق هذه النظرية على أربعة من كبار المؤرخين فى القرن التاسع عشر، هم ميشليه وتوكفيل الفرنسيين ورانكه الألمانى وبوركهارت السويسري. وهو يعتبر أيضا، على خلاف المؤرخين الكلاسيكيين أن فلسفة التاريخ نوع من الكتابة التاريخية، فيدرس أيضا أعمال فلاسفة التاريخ هيجل وماركس ونيتشه وكروتشه.
بذلك يقدم وايت تفسيرا لتعدد تفسيرات التاريخ عند المؤرخين المختلفين، فبدلا من نسبة ذلك لتحيزات المؤرخين وتفضيلاتهم، ينسب هذه التفضيلات نفسها لطبيعة بنية التأريخ الحديث بوصفه سردا له أنماط معينة تقيد عمل المؤرخ بشكل غير واعٍ. وهو يفسر هذا الوضع نفسه بأن التاريخ هو معرفة لم تصل إلى وضع العلم science، مثله فى ذلك مثل كل معرفة أخرى لم تصبح عِلما بالمعنى الحديث للعلم.
ومع ذلك، تظل مشكلة هذه الأطروحة، على قوتها، أنها تفصل التاريخ المكتوب عن الماضى الذى يحكيه هذا التاريخ، ومجمل الفكرة أننا نصنع ونتلقى أو نقرأ الكتابة التاريخية وفقا لحساسياتنا الجمالية والأخلاقية (الأيديولوجية)، لا نتلقاها من المصادر، وبالتالى المظهر الواقعى الموضوعى للكتابة التاريخية مجرد قناع، لأنه لا توجد مرجعية واقعية موضوعية للتاريخ المكتوب، هذا كله يطرح التساؤل عن: لماذا نهتم بالتاريخ، وما فائدة معرفة الماضى إذا كانت حساسيات المؤرخ الحاضرة هى التى تصوغه، سؤال يطرح نفسه على قارئ هذا الكتاب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة