دخل المشايخ إلى محمد على باشا والى مصر فى القلعة، يستأذنوه فيمن يجعلوه شيخا على الأزهر بعد وفاة شيخه عبدالله الشرقاوى، يوم9 أكتوبر 1812، وفقا للدكتور عبدالعزيز محمد الشناوى فى الجزء الأول من كتابه «الأزهر جامعا وجامعة»، مضيفا: رد محمد على: «اعلموا رأيكم واختاروا شخصا يكون خاليا عن الأغراض وأنا أقلده ذلك، فقاموا من مجلسه ونزلوا إلى بيوتهم».
كان هذا اللقاء بعد ثلاثة أيام من وفاة الشيخ الشرقاوى، أى فى 12 أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1812، وطبقا لما يذكره «الشناوى» اعتمادا على الشيخ عبدالرحمن الجبرتى فى موسوعته «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار»، نحن أمام واقعة تكشف دهاء محمد على، ونظرته إلى الشيوخ الذين استقطبهم بالحيلة والإغواء للوقوف بجانبه ضد عمر مكرم، فبالرغم من وقوفهم فى خندق محمد على وبيعهم لشيخهم «الثائر»، فإن «الباشا» احتقرهم فى نهاية المطاف، وكما يقول «الشناوى»: «بعزل عمر مكرم من نقابة الأشراف ونفيه إلى دمياط يوم 12 أغسطس 1809، تخلص محمد على من كبير الزعامة الأزهرية، وخلا له الجو ليتخلص تباعا من بقية الزعماء علماء الأزهر، الذين اعتقدوا عن غفلة أن الوقت قد صفا لهم، وكانت مهمة محمد على فى التخلص منهم أكثر سهولة من مهمته فى التخلص من عمر مكرم، لأن هؤلاء الزعماء هدموا أنفسهم بتصرفاتهم».
يقدم الشناوى قصة الشيخ محمد المهدى «الطامح إلى منصب شيخ الأزهر» بعد وفاة الشرقاوى، كنموذج تطبيقى لما فعله الباشا مع الذين أيدوه وخانوا عمر مكرم، مشيرا إلى أن المهدى تطلع إلى المنصب الرفيع آملا فى مساعدة محمد على له، ولكن الباشا لم يكن يشعر فى قرارة نفسه بتقدير له، وحسب الشناوى اعتمادا على الجبرتى، فإنه فى اليوم التالى لنفى عمر مكرم، ذهب المهدى على غير استحياء إلى محمد على، وطلب أن يقلده وظائف «الشيخ المنفى»، فأنعم عليه بالتنظر على أوقاف الإمام الشافعى ووقف «سنان باشا» فى بولاق، وكانا تحت يد عمر مكرم، ولم يقنع المهدى بذلك بل طلب مكافأة مالية معجلة لم يصعب عليه أن يجد لها تبريرا، فقال إنها المتأخرة له من الغلال عن أربع سنوات خلت، غاب فيها عن القاهرة كان يجوس فيها خلال الديار، التى كانت تحت التزامه فى طنطا والمحلة الكبرى والإسكندرية وغيرها، وكان محمد على يسوف فى سدادها، فأراد المهدى انتهاز الفرصة للمطالبة بها بعد أن تم الإيقاع بعمر مكرم، واستجاب محمد على لرغبة الشيخ الانتهازى، وأمر بأن تدفع له قيمة المتأخرات نقدا، وقام المهدى بتقديرها بنفسه فبلغت خمسة وعشرين كيسا، وكان هذا الكرم على حد تعبير الجبرتى: «نظير اجتهاده فى خيانة عمر مكرم».
ظن المهدى أن الطريق سيكون ممهدا له ليكون شيخا للأزهر، وأن الباشا سيواصل تسديد فاتورة خيانة عمر مكرم، وحسب الشناوى: «كان هناك مرشحان، أحدهما اشتهر بالورع والزهد هو الشيخ محمد الشنوانى، والآخر هو الشيخ المهدى الذى استطاع بوسائله الخاصة أن يجتذب نفرا من العلماء تحمسوا له وانطلقوا ينشرون له دعاية عريضة»، وطلب محمد على من كبير القضاة «بهجت أفندى» جمع علماء الأزهر عنده لاختيار الشيخ الجديد، وفقا لشرطه بأن «يكون خاليا من الأغراض».
يضيف الشناوى: «تجمع المشايخ بالفعل وكان أنصار المهدى أكثر عددا وأحدثوا هرجا ومرجا فى الاجتماع، الذى انتهى باختيار المهدى شيخا للجامع الأزهر، وكتبوا إعلاما شرعيا رفعوه إلى الباشا للتصديق عليه، وهنأ الحاضرون المهدى وقرأوا الفاتحة وركب إلى بيته فى كبكبة، وحوله وخلفه المشايخ وطوائف المجاورين، وشربوا الشربات وأقبلت عليه الناس للتهنئة».
انتظر الجميع موافقة الباشا، ومضى يومان والموقف يزداد غموضا، وفى صبيحة اليوم الثالث، أصدر الباشا قراره بتعيين الشيخ محمد الشنوانى، فكان مفاجأة أليمة للمهدى وأنصاره.
يفسر الشناوى تصرف محمد على، قائلا: المهدى لم يكن مستوفيا لشرط «خالى الأغراض»، وكان يعرف أنه رجل استبد به حب المال حتى طغى على تفكيره ومنهاجه فى الحياة، وأنه كان أسبق الزعماء مبادرة إلى المطالبة بثمن تآمره على عمر مكرم، وتركه الباشا يمارس هوايته فى دنيا المال ويقتنى الثروات، بالإضافة إلى ذلك، فإن الباشا تخلى عنه كحليف الأمس بعد أن أدى دوره فى الوقيعة بعمر مكرم خير ما يكون الأداء فلم تعد له حاجة به.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة