أكرم القصاص - علا الشافعي

نورا طارق

أخلاقنا الجميلة.. الحب و"رشّة الملح"

الثلاثاء، 25 أكتوبر 2022 01:26 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ركبت سيارة الأجرة فى الصباح الباكر كعادتى فى رحلة الذهاب اليومية إلى العمل، مع حرص دائم على الجلوس إلى جوار النافذة؛ لأتأمل تفاصيل الطريق وعناق الأشجار لبعضها مكسوّة بالزهور متنوعة الأشكال والألوان فى لوحة فنية بديعة.
 
أدار السائق إحدى محطات الراديو مستمعا إلى قائمة من الأغانى الرومانسية، تتخللها فواصل إعلانية لبعض المنتجات، بعدها أطل صوت الراحل القدير فؤاد المهندس بالفقرة التاريخية الشهيرة "كلمتين وبس"، لأتذكر معه أجمل أيام الطفولة عندما كنت أجلس فى منزل جدتى بحى الحسين، حيث المباني التاريخية التى تقف شامخة فى منافسة راسخة مع المعمار الحديث، بكل ما يحمله المشهد من تناقض بين الصرامة والنعومة، الخطوط الحادة والنقوش الفنية المتقنة. 
 
كانت جدتى رحمها الله تتفنن فى طهى أشهى المأكولات والمخبوزات. حتى الآن ما زلت أتذكر الرائحة كأننا على سُفرة عشاء معها الآن، وأذكر النكهة الخاصة وإضافاتها المميزة، وما تنفقه من محبة وإخلاص فى إعداد أطباقها، ثم "رشّة الملح" التى لا يحلو المذاق ولا تكتمل الصنعة إلا بها. كانت جدتى تنصحنى بإتقان الطهى وضبط المقادير لا سيما "رشة الملح"، وكثيرا ما تكررت هذه الطقوس بينما نشاهد أحد أفلام فؤاد المهندس، لهذا ارتبطت جدتى وطعامها وملحها فى ذاكرتى بالأستاذ. 
 
تركت التركيز المعتاد فى الطريق والأشجار، وبدأت الإنصات لحلقة "كلمتين وبس"، مستشعرة حالة عظيمة من الدفء والحنين للماضى بما فيه من عذوبة وصفاء نفس، بينما ينساب صوت المهندس بوداعة متحدثا عن الحب بمفهومه العام، بدءا من حب الله والتعبير عنه بالخشوع فى الصلاة وإتمام الفروض واطمئنان القلب والروح، وحب العمل الذى يدفعنا إلى إتقان المهام وتطويرها حتى يظهر الناتج فى أفضل صورة، وحب الجار لجاره بحُسن الجوار ورقة المعشر والمداومة على السؤال والتزاور والدعم فى أوقات الشدة، وحب الزوج لزوجته بما فيه من مودة ورحمة، وغير ذلك من أشكال الحب، ومن واجب الإخلاص فى الشعور به والعمل على نشره والعمل بما يحمّله لنا من مسئوليات وقيم، حتى تطمئن القلوب وترتاح العقول وتصبح الحياة أحلى وأجمل. 
 
أحسست أن تعريفا من تعريفات الحب التى ظل الأستاذ يُعدّدها يخص "رشة الملح" التى كانت تهتم جدتى بمقدارها ووقت إضافتها لإناء الطهى، مدفوعة بمحبة حقيقية للأحفاد ولإتقان العمل ولأن تلمس حالة الرضا ممن قد يذوقون صنيع يديها. هكذا شعرت وأدعوك أن تتخيل معى ماذا لو أحسن الجميع ضبط مقدار الملح ووقت إضافته؟ ماذا لو أحسنوا نشر الحب والتعبير عنه واحترامه والتبشير به؟ لا شك ستكون النتيجة أن تصبح الطبخة أشهى، أن يذهب العامل إلى مقر عمله نشيطا ومُحبا ومقبلا على العمل بإبداع وإتقان، أن يُوقر الجار جاره ويتودد إليه ويصون عهد الجيرة ويُفشى السلام والسؤال والزيارات ليعود الود وحُسن المعاملة و"الطبق الدوار" الذى طالما أذاق الآخرين صدق ما فى قلوبنا وكان دليلا على رباط "العيش والملح" الوثيق، وأن تستقر دعائم البيت مع استقرار محبة الزوج لزوجته وإخلاصه لها واجتهاده فى إرضائه وتنشئة أسرة هادئة وهانئة وإيجابية فى محيطها. هكذا تكون لدينا أجيال سويّة تقرأ كتاب الحب وتكتبه وتعرف كيف تحفظ عهوده، وأجيال مقبلة ستنشأ فى مساحة وسيعة من الألفة والتراحم وحُسن الخلق، وأطفال يتحلّون بأخلاقنا الجميلة ويحفظونها قيمة مهمة وعابرة من جيل إلى جيل،  حتى يصبح الجميع قادرين على استقبال الحب وإنتاجه، فى بيتهم وشارعهم وعملهم وتجاه الله والوطن والإنسان باختلاف عرقه ولونه ولسانه. 
 
الحب ليس احتياجا مرهونا بدائرة شخصية أو رباط اجتماعى بعينه، وإنما هو احتياج دائم للإنسانية فى كل مكان وحين، كما يحتاج طعامنا للملح بمقدار محسوب وإتقان فى الاستخدام دون إفراط أو تفريط. فوائد الحب لا تنحصر فى المهنة أو البيت والأسرة فقط، وإنما تمتد للشارع والبلد، بل وصحة الإنسان نفسه، كلما أحببت بصدق كنت أقرب إلى الشعور بمحبة الآخرين، وأكثر استفادة منها، وأصدق وأقدر على ترجمة تلك المعانى السامية سلوكا ومعاملات. دراسات عديدة أشارت إلى أن الأشخاص الذين يشعرون بالسعادة والحب مع أزواجهم لديهم مستويات أقل من مخاطر ارتفاع ضغط الدم، وفق ما نشره موقع "mdlinx" الطبى، ووجد باحثون فى جامعة كارنيجى ميلون الأمريكية أن الأشخاص الذين يعيشون علاقة زوجية قوامها الحب كانوا أقل عرضة للتوتر والاكتئاب والإصابة بفيروسات الأنفلونزا، إذ ساعد شعورهم بالسعادة على تقوية جهازهم المناعى؛ لهذا أستطيع أن أؤكد لك بقوة أن الحب علامة على الصحة والصدق وسلامة النفس، مثلما "رشة الملح" ميزان يحسُن به الطعم وتنضبط صنعة الطهى.
 









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة