فى فترة التسعينات الوقت الذى رسخت فيه تربية جيل كبير أصبحوا الآن آباء وأمهات ينشؤون أجيالا جديدة، كنا صغاراً لا يربطنا ببيت الجد والجدة سوى اللعب والمرح، هذا البيت الذى كانت تتحدث جدرانه عن الكفاح ولكنه كان معطاءً لدرجة كبيرة، وكان ذلك يظهر بقوة خاصة وقت الأعياد والمناسبات، فكان موقع البيت الذى كان خلف مقام الإمام الليثى بمصر القديمة سبباً لتأثرى بالكثير من العادات الحميدة التى أتمنى أن تكون دستوراً لحياتى حتى الآن، خاصة مع إقامة الموالد لـ أل البيت والمشايخ والدراويش وكل مقام له مولد خاص، لكن أكثر الموالد التى عشتها ولا زالت عالقة فى تفكيرى هو مولد الإمام الليث ابن سعد، أو كما كنت أسمع من جدى أنه يحضر للاحتفال بـ مولد "الإمام الليثى" الفقيه.
استعدادات تبدأ من أسبوع قبل الاحتفال بالمولد لتحضير الولائم للمريدين، الأمر الذى لم يتطلب الكثير، فكل أهل المنطقة يجودون بما يقدرون عليه، إذا لم يتح الذبح وعمل خبز وأرز ولحم، فيكفى رغيف الخبز وحفنة مشبعة من الفول النابت أو الطعمية الساخنة، أو حتى الأرز باللبن، نستيقظ فجر يوم المولد بعد تجهيز جدى لـ "دق" الطعمية، والتى شاهدتها وهى تسحق يدوياً وليست بماكينة مثل هذه الأيام، "هون" ضخم يوضع فيه المحتويات ويتبادل اثنان الدق على المكونات لصنع العجينة، ولا يفارقنى التفكير طوال الوقت وأنا طفلة لم أتجاوز الـ سبع سنوات أن لماذا كل هذا المجهود لأشخاص لا نعرفهم، ولمناسبة لم أعِ أهميتها بالنسبة لجدى ولجدتى اللذان كانا يقدسان الإطعام بالرغم من أنه لم يكن مشهوراً أو متداولاً لكنه كان أمرا أساسيا لديهما، وفى الغالب كان نظاماً أساسياً فى كل البيوت فى هذه الفترة التى كان لا يخلوا أى منزل من الضيوف والعزومات والأحفاد، الأمر الذى كان يجعل مطبخ البيت فى حالة استعداد دائم حتى لو بالقليل الذى يصنع البهجة.
بعد الوقوف قرابة الساعة تقريباً نحصل على عجينة الطعمية ونذهب فوراً إلى بيت جدى، حالة من الفرح لم أشاهدها كثيراً على وجهه وهو يجهز الخبز، رغيف يلى رغيف، مجهود ليس بسهل على رجل قارب الـ 70 عاما ولكنه طوال الوقت يقول إنه ينتظر هذه الأيام لكى يطلع النذور وما يجود به لوجه الله، متابعاً بجملة "اللقم تمنع النقم"، حيث كان طوال الوقت مؤمناً بأن الإطعام سواء لمحتاج أو غير محتاج يكفينا مصارع السوء، فالاحفاد كثر، وجميعنا فى نظره أحبابه وفخره، يخاف علينا ويسعى طوال الوقت لأن نكون بخير، فلا يبخل بأى شيء ما دام فى استطاعته بالرغم من ضيق ذات اليد، ولولا ذلك لكان أخرج النذور لحماً، فكان فول النابت والطعمية الأكلة المثالية للميزانية والأشهى والأحلى بالنسبة لى لأنها كانت تحضر بالحب والكرم، جدى على الرغم من مرضه وشيخوخته التى جعلته يفقد النطق لم يتخلى أبداً عن عادته هذه، حتى وقت احتضاره كان يتذكر كل من كان يساعده فى تحضير النذور لكل مولد ولكل مناسبة، ويوصيهم على مواصلة الأمر الذى أشاهده إلى الآن مع والدتي، حتى وإن بعدت لا زلت على عهد هذه المقولة "اللقم تمنع النقم".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة