يمتد تاريخ المؤسسة الثقافية المصرية الحديثة إلى أكثر من مائتى عام، مرت خلالها بمراحل أربعة، حتى كونت الشكل الحالى لهذه المؤسسة، والتى كانت انعاكساً للوضع السياسى والاجتماعى الذى تعيشه مصر، ويمكن تقسيم تلك المراحل الأربعة على النحو التالي، الأولى (1879-1854)، الثانية (1854-1897)، الثالثة (1897-1952)، الرابعة (1952-2022).
وتبدأ مرحلتها الأولى، مع تأسيس المجمع العلمى بالقاهرة فى 22 أغسطس 1798، والذى أغلق أبوابه سريعاً بخروج الحملة، إلا أن محمد على بدهائه استطاع أن يعيد ترتيب أروقة الدولة من جديد، ليؤسس عددا من المؤسسات الثقافية التى شكلت ركيزة قوية لاستمرار تلك المؤسسة، وكان الطلاب العائدون من أوروبا أحد أهم أدوات محمد على فى ذلك الأمر، والذين ساهموا بشكل كبير فى تلك النهضة الفكرية والمعرفية غير المسبوقة، والتى بدأت بإنشاء مطبعة بولاق 1820، وتأسيس مدرسة ومكتبة بولاق 1820، وبدء حركة الترجمة الكبرى من مختلف العلوم الغربية الحديثة وتأسيس مدرسة الترجمة بالأزبكية 1835، إنشاء انتيكخانة الأزبكية 1835.
كما شهدت تلك المرحلة تأسيس أول مكتب ثقافى مصرى بالخارج، بافتتاح مكتب طلاب البعثات المصرية بباريس 1826، وعلى المستوى الداخلى بدأ الأجانب المقيمين فى مصر بتأسيس عدد من الجمعيات الثقافية التى تخدم أهدافهم فى استكشاف مصر ودول الشرق ودراسة حضارتها وثقافتها، ليقوم الإنجليز بتأسيس "جمعية القراءة الإنجليزية" فى 1828، أما الفرنسيين فقد قاموا بتأسيس "الجمعية الشرقية" التى أقيمت على غرار المجمع العلمي، ثم قام البريطانى "ألفريد والن" بتأسيس "الجمعية المصرية" لتكون الجمعية بمثابة استراحة يجتمع فيها مختلف المستشرقين لتبادل الدراسات والمعلومات.
استمرت تلك المرحلة لم يزيد عن نصف قرن، وصلت لأوج قوتها فى النصف الثانى من عصر محمد على، إلا أنها لم تكن كما كانت عليه فى عهد حفيده عباس حلمى الأول، إذا شهدت الدولة انحسارا كبير للدور المعرفى والثقافي، فعباس كان متقلب المزاج، شديد الانفعال، وسرعان ما أصدر أوامره بعودة جميع المبعوثين المصريين من أوروبا، وهو ما انعكس بأزمة حقيقية داخل أجهزة الإدارة فى مصر، حيث أن عددا كبيرا من المبعوثين العائدين لم يكونوا بعد قد أتموا دراساتهم، وفور عودتهم طالبوا بالعمل فى أجهزة الدولة، ولكنهم فشلوا فى أداء مهامهم، كما أغلق عباس الأول الكثير من الأبواب أمام الفرنسيين فى مصر، فقام بإقصاء معظمهم واستغنى عنهم.
أحاط الغموض بعباس حلمى وسياسته، حتى ساءت سمعته، ويرى البعض أن من صنع ذلك كان الأوروبيون الذين ساءهم منه اعتزاله الأجانب، الذين كانوا يسعون بنشاط فى نشر نفوذهم إلى سائر البلاد، فأعرض عن كثير منهم، وأراد أن يقوى الروح الوطنية فى البلاد، فأثار ذلك نفوسهم وتناولوه بالذم واتهموه بالرجعية والجمود ومحاربة الإصلاح.
والثابت أن عباس الأول، كان مقرباً من المماليك، ومؤيدًا للحركة الوهابية التى انتشرت ببلاد الحجاز، وقام بتهريب أحد أبناء محمد بن عبد الوهاب، أثناء وجوده فى السجون المصرية بعد أسره فى المعركة التى خاضها إبراهيم باشا ضد الدولة السعودية الأولى، كما قام بإحياء شعيرة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى مصر.
غير أن ذلك الغموض أبى ألا يفارق عباس الأول فى حياته ومماته، ففى 13 يوليو 1854 عثر عليه مقتولا فى قصره بمدينة بنها –مقر جامعة بنها الآن-، ولم يعرف من قتله حتى ذلك اليوم.
أدوات لا مبدعين!
ورغم أهمية دور محمد على فى تأسيس عدد من الكيانات التى شكلت ركيزة انطلاق المؤسسة الثقافية الحديثة، إلا أنه لم يكن لدى محمد على وحفيده عباس حلمى الأول، اهتمام بخلق المفكرين والمبدعين، وحماية الهوية المصرية، وحفظ تاريخها وآثارها، فقد كان ارتباط نتاج البعثات العلمية بالدولة هو خلق أدوات عمل أكثر منه خلق مبدعين ومفكرين.
لم تُعن دولة محمد على بحث الطلاب المصريين بأوروبا على تخطى المعرفة التى وفدوا بها، والسعى إلى إبداع المزيد من هذه المعرفة وإنتاج نظريات وأفكار جديدة، وتوقف دورها فى غرس هذه المعرفة فى إطارها إلى طلابهم، ومع عودتهم يتوقف سعيهم إلى مزيد من المعرفة، ليتقادم ما تعلموه، فى حين يكون العرب قد أنتج مزيداً من المعرفة الجديدة لتتزايد الفجوة من جديد بيننا وبينه.
الهوية ثانوية!
أما فيما يخص قضية حماية هوية الدولة، لا تزال مسلة تحتمس الثالث والتى أهديت إلى باريس عام 1833 خير دليل على ثانوية مسئولية حماية الآثار المصرية لدى محمد على، ولك أن تتخيل أن كان هذا الإهداء إلى الملك الفرنسى "لوى فيليب"، مقابل الحصول على الساعة التى تم تركيبها بقصر محمد على بالقلعة، وعلى أثر هذه الحادثة ظهرت النغمة التى نسمعها حتى اليوم "أنه من الطبيعى أن يحدث ذلك فى بلد لا يمتلك متحفاً يحافظ على آثاره" التى النغمة التى ألفها الكاتب الإنجليزى "وليم هولت ياتس"؛ إلا أن محمد على انتبه أخيراً لمساءلة حماية الآثار المصرية ليؤسس آنتكخانة الأزبكية فى 15 أغسطس 1835، ليحاول عرقلة تهريب الآثار المصرية إلى الخارج بعض الشئ.
وبالغ عباس حلمى الأول فى عدم الاهتمام بالآثار المصرية، ليقوم بنقل ما تم جمعه بأنتكخانة الأزبكية إلى مقر حكمه بالقلعة، واكتملت المأساة فى عام 1855، حينما زار الأرشيدوق النمساوى فرديناد مكسمليان هذه القاعة أعجب بها، فأهداها له عباس باشا بأكملها إليه، ونُقلت إلى "فيينا"، لتكون نواة الآثار المصرية بمتحف فيينا، ومازالت هناك حتى اليوم.
ومع تولى محمد سعيد باشا عاد الفرنسيين إلى الواجهة مرة أخرى، ومعهم عادت الثقافة لتكون السلاح الذى يتسلل منها الفرنسيون للمرة الثالثة للسيطرة على مفاصل الدولة المصرية، تلك السيطرة التى امتدت إلى عصر إسماعيل باشا، وابنه محمد توفيق باشا، وجزء من عصر عباس حلمى الثاني، مع تعيين البريطانى "دوجلاس دانلوب" سكرتيرًا عموميًا للمعارف فى 8 مارس سنة 1897، لتبدأ معها الحياة الثقافية المصرية مرحلة جديد، فكيف كانت مظاهر تلك الفترة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة