أجمل ما في السينما أنها تعطينا مساحة واسعة للتأمل، وأفقًا أوسع للتعبير وحالات شعورية مختلفة للتعاطي مع الفيلم، لا توجد قوانين ثابتة أو أحكام قاطعة في الفن، ليس بالضرورة أن تكون هناك حكاية محكمة بداية ووسط ونهاية، أو صراع لابد أن يكتمل أو أن ينتصر الخير أو الشر بل دائمًا تكون هناك مساحات رمادية تمامًا مثل الحياة.
19 ب
19 ب
السينما وليست الدراما التليفزيونية تمنحنا تلك الحالة الفنية الخالصة، لذلك لم أندهش من بعض الآراء التي لم تستطع التعاطي مع الفيلم المصري "19 ب" للمخرج أحمد عبد الله، الذي يمثل مصر في المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، أو من يرى أنه كان يصلح أكثر كفيلم قصير، ذلك الانقسام في حد ذاته حالة صحية، والنقاش حول فيلم وطرق التعاطي المختلفة معه يعكس أيضًا أنه يستحق التأمل وأن به العديد من العناصر الفنية التي تلفت النظر.
فيلم "19 ب" لا تستطيع أن تشاهده أو تفسره بعيدًا عن أعمال أحمد عبد الله السابقة حيث إن كل تجربة كانت تحمل خصوصيتها بدءًا من " ميكروفون"، ومرورًا بـ"هليوبوليس"، ثم "ديكور"، "وليل خارجي"، في فيلمه الجديد يجعلنا أحمد عبد الله نمارس ألعابًا ذهنية عدة ويفتح للمشاهد مساحات للتأويل سواء للقطة ما أو مشهد بعينه، قد يري البعض أن الفيلم تدور أحداثه حول حارس العقار العجوز "سيد رجب" المؤتمن على فيلا أصبحت آثرًا لأن عمرها يتخطى 100 عام بعد أن تركها الورثة وهاجروا خارج البلاد.
كل شيء في تلك البناية متداعى، الحارس ينتظر أن يخاطبه محامي الأسرة ليحدد مصير الفيلا، أو أن تعود الأسرة لبيعها، وكذلك ينتظر أن يتم حقن العمدان المائلة، أو ترميم البناية، يمارس الحارس طقوس حياته برتابة شديدة، إذ يسقى الزرع، ويطعم القطط والكلاب التى تجاوره ويرعاها وترعاه في المقابل، ويعد كوب الشاي بالنعناع، ويتحاور مع (سكر) أو "مجدي عطوة" حارس العقار المجاور له وعشرة عمره، ينتظر زيارات ابنته "ناهد السباعي" الوحيدة التي تأتي محملة بالخوف عليه والطعام ليأكلا معًا، تحاول مرارًا وتكرارًا أن تقنعه بمغادرة هذا المبنى المتهالك وأن يأتي ليعيش معها.
19 ب
19 ب
19 ب
19 ب
هناك أيضًا الدكتورة جارته التي تساعده في إطعام هذا العدد الكبير من القطط والكلاب وتحديدًا صديقه الكلب عنتر، يجلس ليستمع للأغاني من الكاسيت القديم الذي يملكه، كل شيء يسير بنفس الوتيرة والهدوء والتكرار بما يتناسب مع رجل في هذه المرحلة العمرية، ولكن فجأة يعكر صفو تلك الحياة الرتيبة ظهور (السايس ناصر) "أحمد خالد صالح"، و(ماردوانا) وتحديدًا ناصر الذي يرغب في فرض سطوته واستغلال هذا المنزل في تخزين بضائعه المهربة من سجائر وخمور وكأنه لم يكتف باحتلال الشارع، وقرر أيضًا أن يقتحم هذا المنزل الآمن، من هنا يتصاعد الصراع على أصعدة مختلفة بين الابنة والسايس حيث نشعر للحظات أن هناك علاقة ما كان تربط بينهما، معاناتها مع زوجها التي نفهمها ضمنيًا من جمل حوارية بينها وبين والدها السايس نفسه الذي يرى أنه ضحية لمجتمع لم يرحمه بل قهره وزج به إلى السجن قهرًا، تلك هي القصة أو مستوى السرد الذي قد يتعاطى معه البعض.
وهناك مستوى آخر وهو أن الفيلم يطرح تساؤلات كثيرة عن الوحدة، والشقاء، والخوف من مغادرة العالم الذي رسمت حدوده بنفسك وتشعر بداخله بالأمان المطلق، لا ترغب في أن يقتحم عالمك أو قوقعتك أحد آخر مهما كانت تلك القوقعة مليئة بالشروخ وقد تنغلق عليك أكثر وأكثر أو تتشقق، وستجرب مرات أن تدافع عن نفسك بكل الطرق المسالمة التي تتماشي مع عالمك، إلى أن تصل لذروة الخوف ويخرج كل ما بداخلك من عنف مكتوم لتواجه به عنف العالم المحيط بك.
19 ب
مخرج فيلم 19 ب أحمد عبد الله
لا أعرف كيف وازن المخرج أحمد عبد الله بين هذا القدر من التفاصيل الرقيقة جدًا حول عالم حارس العقار في تعامله مع المنزل وعنايته بنباتاته وحيواناته وبين عنف من جاءه مغتصبًا لعالمه وفارضًا لسطوته وقوانينه عليه.
وعكست كاميرا مصطفى الكاشف مدير التصوير جمال التفاصيل رغم تهالك المنزل وعنف التحولات في فهم درامي كامل لتفاصيل اللقطات، وتحديدًا مشهد الحجر الذي وضعه ناصر السايس في طريق حارس العقار صاحب العرج الخفيف في قدمه، وإصراره على أن يحركه، مشهد الصراع بين الإثنين وتصاعده زوايا اللقطة وكل منهما ملقي بعد "العركة" ناصر مضرجًا في دمائه، وحارس العقار الذي يشعر رغم الكارثة أنه استعاد عالمه، تلك اللقطة الملهمة والمميزة بين حارس العقار ووالدة الطبيبة القديرة منحة البطراوي، والنظرة المتبادلة بينهما والمحملة أيضًا بالتساؤلات والتأويل .
وتميز شريط الصوت واختيار الأغنيات، والملابس التي عكست أيضًا طبيعة الشخصيات، والأداء التمثيلي الهادئ والمنضبط وتحديدًا لناهد السباعي ومجدي عطوان، نعم هناك بعض التطويل في مشاهد الفيلم الأولي وتكرار التفاصيل المتعلقة بوتيرة حياة البطل، رأى البعض أثناء النقاشات أنه كان يفضل اختصارها، لكنها في ظني جزء من اكتمال عالم حارس العقار تلك التفاصيل المتكررة هي ما تمنحه الأمان .
"19 ب" فيلم مليء بالتفاصيل عن الوحدة في مقابل الخوف من عالم لا يمنحنا سوي القهر والعنف، الفيلم تأليف وإخراج أحمد عبد الله، وبطولة سيد رجب، وناهد السباعي، وأحمد خالد صالح، ومجدي عطوان وفدوى عابد ومنحة البطراوي.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة