يبدو المونديال مختلفا تماما، في نسخته الحالية، عن سابقيه، وهو ما يبدو واضحا في العديد المشاهد، يتجلى أبرزها في بعض نتائج المباريات، التي عكست صعودا كبيرا لمنتخبات، استطاعت أن تحقق مفاجأت كبيرة على غرار السعودية واليابان ثم المغرب، بعد فوزهم على الأرجنتين وألمانيا وبلجيكا، على التوالي، رغم الاختلاف الكبير في التاريخ فيما بينهم لصالح الفرق الخاسرة، وهو ما يمثل رسالة ضمنية، مفادها أن خريطة كرة القدم العالمية قد تشهد تغييرا، على المدى المتوسط، حال استمرار المنتخبات التي بزغ نجمها، في تطوير أدواتها، خلال السنوات المقبلة، حتى وإن لم يكتب لهم التوفيق في الذهاب بعيدا في البطولة الحالية، خاصة وأن النتائج والأداء المتميز يمثل دافعا قويا في المناسبات القادمة.
ولكن بعيدا عن المباريات وأحداثها، تبقى هناك العديد من المشاهد الأخرى، التي لا تقل أهمية بأي حال من الأحوال عن التفاصيل الفنية للبطولة، منها التزامن بينها وبين العديد من الأزمات المحيطة بالعالم، وعلى رأسها الأزمة الأوكرانية، وكذلك إقامتها لأول مرة على أرض عربية، وهو ما فتح المجال أمام حالة من التداخل بين الحدث الرياضي، والعديد من الأبعاد الدبلوماسية والسياسية، وهو ما بدا في استخدام اللغة العربية، في التغريدات التي أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد تأهل منتخب بلاده رسميا إلى الدور الثاني، ليقدم من خلالها رسالة للتقارب مع الشعوب العربية، من بوابة "كرة القدم"، والتي تعد اللعبة ذات الشعبية الأولى بين شعوب العالم.
رسائل ماكرون تضمنت تهنئة المنتخب الفرنسي بالصعود، بالإضافة إلى الإشادة بالتنظيم الجيد من قبل دولة قطر، بالإضافة إلى الدعوة إلى الحفاظ على الروح الرياضية، للاحتفلظ بمساحة من التقارب بين شعوب العالم، لمواجهة سلسلة من الأزمات، والحفاظ على القيم العالمية، وهي رسائل تمثل انعكاسا لحالة الاختلاط بين الأبعاد الثلاثة (الرياضية والسياسية والدبلوماسية)، والتي تجسدت في البطولة الكبيرة التي تحظى بمتابعة مليارات البشر حول العالم.
رسائل ماكرون، تمثل امتدادا صريحا لطموحات باريس، نحو توسيع الدور الذى تلعبه على الساحة الدولية، بينما يبقى استخدامه للغة العربية في إطلاقها، يعكس أولوية المنطقة العربية على الأجندة الفرنسية، في المرحلة المقبلة، مع التوجه الصريح نحو التحرك، بقدر من الاستقلالية، بعيدا عن فلك القيادة الأمريكية لدول المعسكر الغربي، بل وقيادة المحيط القاري، في هذا الاتجاه، في ظل الحاجة الملحة لتوسيع دائرة التكامل لتتجاوز النطاق الإقليمي التقليدي، نحو أفاق أرحب، لمجابهة التداعيات الكبيرة للأزمات الراهنة، والتي تمثل تهديدا صريحا للأمن الغذائي والطاقة، وهو ما يضع كافة الدول، رغم اختلاف الإمكانات، في مأزق حقيقي.
ولعل استخدام لغات مختلفة من قبل القادة العالميين على مواقع السوشيال ميديا، ليس بالأمر الجديد تماما، فقد سبق وأن استخدمها بعضهم لاستباق زيارة أو جولة عربية، أو للإشادة بنتائجها، بعد الانتهاء منها، وهو ما يهدف بالأساس إلى إضفاء حالة من القبول الشعبي للزيارة وما تم إنجازه خلالها، إلا أن الأمر يبدو مختلفا في حالة ماكرون، والذي حملت منشوراته رسائل تجاوزت مجرد التهنئة بصعود منتخب بلاده، والتي كانت بالأحرى أن تكون بالفرنسية، بينما تبنت في صياغتها "الجماعية"، التي تمثل أساسا للعمل في مجابهة الأزمات بصورتها الجديدة.
وفي الواقع، تبدو تغريدات ماكرون باللغة العربية، محاولة لإضافة المزيد من الزخم، لدور باريس، قبل زيارته المرتقبة إلى واشنطن، ولقائه بالرئيس الأمريكي جو بايدن، للتحدث خلالها باسم أوروبا فيما يتعلق بالعديد من القضايا، على رأسها القوانين التي أضرت بالاقتصاد في القارة العجوز، على غرار فرض التعريفات الجمركية، وقوانين التضخم، ناهيك عن أزمة الطاقة، التي دفعت قطاعا من دول القارة لاتهام الولايات المتحدة بالإتجار بالأزمة الأوكرانية، لتحقيق أكبر قدر من المكاسب الاقتصادية في الداخل، على حساب الحلفاء.
تغريدات ماكرون ليست المشهد الوحيد على هامش المونديال، والتي اختلطت فيه اللعبة بالأوضاع العالمية، حيث تطل الازمة الاوكرانية بارزة، في ظل توجهات الاتحاد الروسي لكرة القدم، تزامنا مع البطولة، نحو الانضمام للاتحاد الآسيوي، بعد قرار أوروبا بتجميد النشاط الكروى في موسكو، وحرمانها، سواء على مستوى الأندية أو المنتخبات، من المشاركة في البطولات العالمية والقارية.
لم تتوقف المشاهد المتداخلة عند هذا الحد، فهناك مباريات مرتقبة تحمل فيها المنافسات الرياضية أبعادا سياسية، على غرار مباراة أمريكا وإيران، والتي تمثل تكرارا لمباراة مونديال 1994، والذى احتضنته الولايات المتحدة، والتي اقتنصت فيه إيران، فوزا تاريخيا، في عقر دار "بلاد العم سام"، ليختلط الثأر الكروي بالاحتقان السياسي، في المباراة المقبلة.
وللمصادفة، فإن نفس المجموعة تشهد لقاء أخر في نفس المجموعة بين إنجلتر وويلز، والتي تحمل في طياتها، على الأقل لدى الجماهير، أبعادا تتجاوز كرة القدم في ظل مطالبات بالاستقلال عن المملكة المتحدة، وهو ما يضفي أبعادا إضافية للقاء المرتقب، ناهيك عن احتفاظ فرق المجموعة الأربعة بالتأهل للدور القادم من البطولة.
وهنا يمكننا القول بأن المونديال، هذه المرة، يبدو استثنائيا ليس فقط على مستوى تنظيمه على أرض عربية، أو المفاجأت على مستوى النتائج، وإنما أيضا فيما يتخلله من أحداث متزامنة تفرض أبعادا تبدو مختلفة عن سابقيه، تتجاوز المستطيل الأخضر، إلى الحد الذي يطرح تساؤلات حول مستقبل اللعبة ودورها على المستوى العالمي.