عادل السنهورى

فى بيتنا تليفزيون.. وفيروز فى القاهرة (1)

الثلاثاء، 29 نوفمبر 2022 06:45 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
جاءت فيروز إلى القاهرة بعد عامين من دخول التليفزيون بيتنا وكان ذلك تقريبا فى نهاية ديسمبر عام 74، وسط فرحة عارمة ليس فى بيتنا فقط وإنما فى شارعنا الكبير - شارع الدلتا فى دسوق - الذى احتفل معنا كواحدة من أسرتين أو ثلاثة أسر التى اقتنت هذا الجهاز السحرى الذى ظل حلم رؤيته ومشاهدته إحدى عجائب الدنيا بالنسبة لنا كصغار فى تلك المرحلة. 
 
كان ذلك - على ما أتذكر - يوم جمعة وتحت الضغوط الأسرية اضطر والدى الحاج على السنهورى - رحمه الله - راضيا وقانعا بالنزول مع أخى الكبير مسعد عقب صلاة الجمعة لشراء الجهاز مع "الإيريال" الشهير فى السبعينيات وحتى بدايات التسعينيات قبل ظهور غول الأطباق الفضائية. 
 
وقفنا جميعا فى شرفة المنزل - البلكونة - على قلق كأن الريح تحتنا فى انتظار ما سوف يجيئ. ولاحت البشرى مع ظهور أبى.. والشقيق الأكبر أول الشارع البعيد حاملا كرتونة ضخمة وأسلاك وقضبان رفيعة فضية لامعة - الإيريال طبعا - وكانت فرحة وسعادة لا يمكن وصفها ولا تضاهيها سوى فرحة إحراز مصر هدفا فى هولندا فى كأس العالم 90 - بتاع الأخ مجدى عبد الغنى إياه -.
 
بالقبلات والأعناق الحارة استقبلنا الحاج على عتبة المنزل وسط التهليل والتكبير بالانتصار المبين مع باقى الجيران. بعد الفرحة الطاغية والهيستيرية طغى صمت رهيب مع بدء عملية التركيب والتوصيل والبحث عن المكان المناسب لوضع حضرة الضيف المحترم وسط تعليمات صارمة من الوالد بالصمت والتزام كل فرد بمكانه حتى تنتهى العملية الكبرى.
 
وجاءت اللحظة التاريخية الفارقة فى حياة الأسرة السنهورية بين زمن الراديو ذى اللون السماوى الذى كنا لا نسمع فيه سوى خطب عبد الناصر ثم يستقر فى محبسه بمكتب أبى الصغير حتى يحين موعد الخطبة القادمة، وبين عصر السحر والخيال والصورة الفضية اللامعة من هذا الجهاز شبه المستطيل ذى الإطار الخارجى الأسود وأزرار صغيرة وزر كبير يشبه الحلقة بدت مثل اللوغاريتمات بالنسبة لنا. 
 
قبل التشغيل كانت حصة قراءة نشرة التعليمات المصاحبة للجهاز.. راح يتلوها بصوت عالٍ شقيقى الأكبر ونحن جالسون على "الكنب" والأرض فى انتظار انفراج الستار الأسود عن الشاشة. بدأ التشغيل وسط فرحة جديدة وصياح تردد صداه خارج منزلنا .. فبادلنا الجيران بالتهانى والنداء.
 
ومثل مقص الافتتاح للرؤساء فى المشاريع الكبرى، ضغط أبى على الزر الأسود ولم تكن سوى ثوانٍ معدودة حتى تتحرك الصور أمامنا مع صوت لا نراه. وران صمت آخر استمر طويلا على الجميع ولم تصدر عنا ولو كلمة أو بنت شفه - كما يقولون فى اللغة العربية -
 
فى الصورة جنود وموكب رهيب ونعش يجره أحصنة وقادة كبار .. وموسيقى عسكرية وصوت حزين يلاحق الصورة .. أظنها كانت أول شىء نراه فى التليفزيون الذى أصبح أمرا واقعا فى بيتنا. 
 
كانت جنازة وداع المشير أحمد إسماعيل على القائد العام للقوات المسلحة ووزير الحربية خلال حرب أكتوبر المجيدة 73 .. وأظن ذلك كان يوم 27 ديسمبر من عام 1974 أى بعد يومين من إعلان وفاة المشير أحمد إسماعيل.
 
انتهت مراسم الجنازة المهيبة وكانت نهايتها إيذانا بإغلاق الجهاز بأوامر صارمة من الحاج على - كفاية كده نريحه شوية - ولم يكتف بالإغلاق فقط بل راح يلقى علينا وخاصة الصغار - وأنا منهم - تعليمات وقواعد يجب الالتزام بها واتباعها بصرامة شديدة وبمتابعة من الشقيقة الكبرى "الأبلة نجاح" للفرجة ومشاهدة التليفزيون، كان فى الصدارة منها بالطبع استذكار الدروس والانتهاء من الواجب اليومى للمدرسة فى كل المواد الدراسية ثم إعطاء التمام لشقيقتى الكبرى وموافقتها على الدخول إلى غرفة التليفزيون لمشاهدة مسلسل الخامسة والربع. وحسب ذاكرة الطفولة كان يعرض وقتها عرفت فيما بعد - أحد أجزاء خماسية الساقية للكاتب الكبير عبد المنعم الصاوى (الضحية، النصيب، التوبة، الحساب، الرحيل) إخراج نور الدمرداش وبطولة عدد كبير جدا من فطاحل التمثيل المصرى منهم على سبيل الذكر وليس الحصر عبد الله غيث وشفيق نور الدين وصلاح السعدنى وزيزى مصطفى وسميحة أيوب وعبد الغنى قمر. أشخاص تتحرك أمامنا وحوار بالعامية كما يتحدثون فى الريف المصرى وكاميرا بطيئة حائرة بين ممثل وآخر.
 
فى نهاية المسلسل  نستعيد الفرحة التى تتصاعد مع كل شىء جديد يظهر على الشاشة. وتصدر التعليمات بالذهاب إلى النوم استعدادا لليوم الدراسى القادم. كان الاستثناء الوحيد لمشاهدة التليفزيون لوقت أطول بتعليمات الأب عقب انتهاء اليوم الدراسى ليوم الخميس. فاليوم التالى إجازة أسبوعية من المدرسة وهو اليوم المشهود لمباريات كرة القدم حيث يجتمع شباب الأسرة وأصدقاء أخى الكبير فى شارعنا وتضيق الغرفة علينا بما رحبت لمشاهدة المباراة خاصة لو كانت بين الزمالك والأهلى أو أحدهما مع فريق آخر بحجم الإسماعيلى والمحلة والاتحاد السكندرى والمصرى البورسعيدى بنجوم تلك الفرق فى السبعينيات.
 
فى تلك الأيام لاحظت أن أبى قرر الإفراج عن الراديو وتركه على "رف" عال فوق الثلاجة للاستماع عليه فى محاولة لتخفيف الضغط عن الضيف الجديد. لم تنجح المحاولة إلا من استكشاف أشياء جديدة فى الراديو غير خطب الرئيس عبد الناصر الذى كان قد رحل قبل هذا الزمن بأربع سنوات. اكتشفت أن هناك أغانى وبرامج وإذاعات مختلفة فى الراديو... هنا إذاعة الشرق الأوسط ..عبد الحليم حافظ يغنى وهناك فى إذاعة صوت العرب تشدو فيروز... وفى البرنامج العام الست أم كلثوم وعبد الوهاب وغيرها من برامج "صوت المعركة" للإعلامى الراحل حمدى الكنيسى والبرنامج الرياضى الأشهر مساء كل جمعة للإعلامى الكبير فهمى عمر "التعليق على مباريات كرة القدم" الذى كانت تنتظره الملايين لمعرفة نتائج المباريات غير المذاعة فى التليفزيون.
 
استمعت إلى كل هؤلاء فى الراديو وتمنيت أن أراهم فى التليفزيون... حتى تحقق ذلك مع إذاعة حفل شم النسيم للعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ وبعدها جاءت المبهرة فيروز الذى هزنى صوتها المميز بالنسبة لى فى بداية المرحلة الإعدادية وغناءها المختلف ولهجتها المتفردة البديعة.
 
كنت أبحث عنها فى محطات الراديو هى وحليم. ورغم عدم معرفتى ببعض الكلمات اللبنانية إلا أن صوت فيروز وموسيقى الرحبانى بهما سحر خاص يشدك إلى الاستماع. لفت انتباه أبى هذا الاهتمام حتى جاء اليوم الموعود لرؤية المحبوبة فيروز على شاشة التليفزيون عندما تقرر إذاعة حفلتها الأشهر فى مصر بحديقة الأندلس والتى أقيمت فى شهر أكتوبر عام 76 بعدها بأسابيع قليلة فى التليفزيون بناء على رغبة المشاهدين وعشاق وصوت فيروز. كانت واحدة من اللحظات السعيدة فى حياتى أن أشاهد فيروز وأستمع إليها مع باقى أعضاء الفرقة... انتبهت لصوت أبى وهو يداعبنى "بتحب فيها إيه .. دى عصاية بتغنى". لم أفهم المعنى ولم يكن يثيرنى فى هذا الجسد النحيل سوى صوتها الملائكى الممزوج بالخجل وبالشجن والحزن النبيل.
 
فكيف جاءت فيروز إلى مصر ولماذا كانت حفلة الأندلس واحدة من أجمل حفلاتها على الإطلاق...؟ للحديث تكملة
 






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة