"الشراكة والتوافق".. كلمات هيمنت على القمة العربية التى عقدت بالجزائر خلال اليومين الماضيين، بينما عززتهما الرؤية المصرية، التى عبر عنها الرئيس عبد الفتاح السيسى سواء فى كلمته التى ألقاها أمام القادة العرب، بمركز المؤتمرات الدولى "عبد اللطيف رحال"، أو من خلال اللقاءات التى عقدها، والتى تمثل انعكاسا صريحا لرغبة واضحة، فى تحقيق أكبر قدر من الرؤى المشتركة التى من شأنها أن تطغى على الخلافات، بهدف تحقيق مصالح دول المنطقة.
ولعل الحديث عن مبادئ "التوافق والشراكة"، يمثل انسجاما صريحا مع السياسات التى تتبناها الدولة المصرية، والتى تعتمد فكرة الحوار، سواء، فى إدارة الملفات الداخلية، أو علاقاتها الدولية فى مختلف مناطقها الدبلوماسية، وهو ما يعزز نفس الرؤى التى تتبناها الدولة فى الداخل والخارج، ناهيك عن الإيمان بفكرة "الجماعية"، لمجابهة الأزمات المستحدثة، فى ظل عدم قدرة طرف واحد، على تجاوزها بمفرده، مهما كانت الإمكانيات التى يمتلكها.
حالة "اللجوء إلى الجماعية"، فى مجابهة الأزمات الجديدة والمتلاحقة، ربما عبر عنها الحوار الوطنى فى الداخل، والذى يمثل "ثمرة"، لخطوات متواترة، دمجت العديد من أطراف المعادلة المصرية، فى "بوتقة" الوطن، بدء من الشباب والمرأة، مرورا بذوى الهمم، وحتى رجل الشارع العادى، الذى بات فى بؤرة اهتمام صانعى القرار فى الدولة المصرية، ليصبح كل أطراف المعادلة السياسية فى الداخل مؤهلين للحوار الوطنى، والذى يهدف فى الأساس إلى تحقيق المصلحة العامة للمواطن بعيدا عن المصالح الضيقة.
الرؤية نفسها تنطبق بوضوح على دبلوماسية مصر العربية، والتى شهدت اعتمادا صريحا على الحوار، مع كافة الشركاء الإقليميين، خلال السنوات الماضية، فى صورة اجتماعات تشاورية، تجاوزت الثنائية التقليدية نحو أفاق أرحب، فى صورة اجتماعات ثلاثية، ورباعية وخماسية، بهدف التنسيق فى مختلف الجوانب السياسية، ناهيك عن خلق حالة من التعاون الاقتصادى يمكن من خلاله مجابهة الأزمات الطارئة، الناجمة عن المستجدات الدولية، على غرار الازمة الأوكرانية، أو تداعيات جائحة كورونا، وظاهرة التغيرات المناخية، وهى القضايا التى تركت أثارا عميقة على المنطقة العربية فى السنوات الماضية.
"الدبلوماسية التشاورية"، التى خلقتها مصر، فى إطار ثلاثى ورباعى وأحيانا خماسى، مع محيطها الاقليمى، استلهمتها جامعة الدول العربية، فى إطار أوسع وأكثر جماعية، عبر اجتماعات منتظمة، بعضها مستقل، على غرار الاجتماعات التشاورية التى عقدت فى لبنان والكويت، خلال رئاستهما لمجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية، بينما تزامنت الأخرى مع اجتماعات الجامعة أو مناسبات أخرى، كالمشاركة فى أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نيويورك، وهو ما ساهم جزئيا فى ملء الفراغ الناجم عن توقف القمم العربية لأكثر من 3 سنوات على خلفية تفشى وباء كورونا، منذ انعقادها لاخر مرة فى تونس فى مارس 2019، قبل انعقادها مجددا فى الجزائر فى اليومين الماضيين.
ولو نظرنا إلى نشاط الرئيس السيسى فى الجزائر، ربما نجد ترجمة لرؤية مصر، فى التعامل مع المحيطين العربى والدولى، فى إطار منهج يبدو متكاملا ينطلق من ضرورة تحقيق الاستقرار الداخلى فى الدول العربية، مع العمل على حماية الأمن القومى العربى فى صورته الجماعية، لتحقيق الاستقرار الجماعى للمنطقة العربية، عبر تقويض التدخل الاجنبى فى شؤون الدول العربية، وصولا إلى التعاون فى مواجهة الأزمات الدولية الراهنة، والتحديات الراهنة فى إطار جماعي.
لقاءات الرئيس ترجمت تلك التوجهات، عبر لقاءات عقدها مع الرئيس العراقى عبد اللطيف رشيد، ورئيس مجلس الرئاسة اليمنى، رشاد العليمى، بالإضافة إلى لقائه مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش للتأكيد على ضرورة استعادة الاستقرار فى الدول التى تعانى من الصراعات الداخلية، بينما حملت كلمته أمام القمة رؤية أكثر شمولا وجماعية، اعتمدت التركيز عل الكثير من المشتركات التى تجمع الدول العربية، والتى يمكن الانطلاق منها لتوحيد الرؤى العربية وتجاوز الخلافات البينية.
وهنا تتجلى الرؤية المصرية، فى إطارها "العروبي"، والتى تعتمد مسارات رئيسية، أولهما وطنى، يقوم فى الأساس على حماية الدولة الوطنية والعمل على دعم استقرارها، خاصة فى المناطق التى عانت جراء الفوضى العارمة التى شهدتها المنطقة فى العقد الماضى، فى ضوء حقيقة مفادها أن تلك الحالة من عدم الاستقرار لا تقتصر فى تداعياتها على حدود الدول الواقعة فيها وانما تبدو ممتدة يمكنها تقويض الاستقرار فى دول أخرى.
فى هذا الإطار، دعا الرئيس السيسى إلى تبنى مقاربة مشتركة وشاملة تهدف إلى تعزيز القدرات الجماعية على مواجهة مختلف الأزمات استنادًا على أسس واضحة تقوم على تكريس مفهوم الوطن العربى الجامع من ناحية، والدولة الوطنية ودعم دور مؤسساتها الدستورية من ناحية أخرى بما يسهم فى حفظ السلم الاجتماعى وترسيخ ركائز الحكم الرشيد والمواطنة وحقوق الانسان، ونبذ الطائفية والتعصب، والقضاء على التنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة، وقطع الطريق أمام أية محاولات لدعمهم أو منحهم غطاءً سياسيًا، أو توظيفهم من قبل بعض القوى سواء الإقليمية أو الدولية لإنشاء مناطق نفوذ لها فى العالم العربي.
فى حين تبقى "الجماعية" فى التحرك، مسارا أخر، يعتمد رؤية لحماية الأمن الجماعى العربى، عبر إنهاء الصراعات، فى الوقت الذى تبنى فيه المنطقة العربية علاقات مستقيمة مع الجوار الاقليمى، بما يقوض أى محاولات من شأنها زعزعة استقرار دول المنطقة، وبالتالى تخفيف حالة الصراع تدريجيا، لتتحول إلى تفاهم من شأنه الوصول إلى الاستقرار.
الرؤية المصرية فى هذا الإطار، ترجمتها كلمات الرئيس أمام القمة العربية، عندما أكد على أن ضمان قوة وحدة الصف العربى هى خطوة أساسية على صعيد تأسيس علاقات جوار إقليمى مستقيمة تستند إلى مبادئ غير قابلة للمساومة وملزمة للجميع، وهى احترام استقلال وسيادة وعروبة دولنا، وتحقيق المنفعة المتبادلة، وحسن الجوار، والامتناع الكامل عن التدخل فى الشئون العربية.
رؤية مصر شهدت "مباركة" صريحة فى "إعلان الجزائر"، والذى أكد على ضرورة بناء علاقات سليمة ومتوازنة بين المجموعة العربية والمجتمع الدولى، بما فيه محيطها الإسلامى والأفريقى والأورو-متوسطى، على أسس احترام قواعد حسن الجوار والثقة والتعاون المثمر والالتزام المتبادل بالمبادئ المكرسة فى ميثاق الأمم المتحدة وعلى رأسها احترام سيادة الدول وعدم التدخل فى شؤونها الداخلية.
تحقيق الاستقرار الداخلى للدول العربية وعلى المستوى الإقليمى الجماعى، يدفع نحو مسار ثالث، يعتمد على الشراكة الحقيقة بين الدول العربية، انطلاقا من التاريخ المشترك، نحو مستقبل أكثر ازدهارا، عبر تعزيز القدرات، سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، لمواجهة التحديات المشتركة، وعلى رأسها الأزمات المستجدة، على غرار ظاهره التغيرات المناخية، وازمات أمن الطاقة والغذاء، بالاضافة إلى استقلالية القرار السياسى للدول العربية بعيدا عن الضغوط التى تفرضها الدول الكبرى.
الرؤية المصرية شهدت توافقات كبيرة، فى إطار الرؤى التى قدمتها الدول العربية خلال قمة الجزائر، فى ظل الازمات الراهنة، والتى دفعت نحو دعوات صريحة، لتأسيس تكتل اقتصادى عربى، على غرار دعوة الرئيس ال يمكنه التعامل مع المحيط الدولى بصورة أكثر فاعلية، وهو ما بدا فى دعوة الرئيس الجزائرى عبد المجيد تبون، فى كلمته أمام الجلسة الافتتاحية للقمة العربية الثلاثاء الماضى، بالاضافة لدعوات مشابهة من تونس.
يقول الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط إنه رصد رغبة القادة العرب فى التعامل مع العالم ككتلة واحدة، موضحا أن القمة الحالية ارتبطت بقضايا الأمن الغذائى، والتى باتت تمثل أولوية كبيرة فى المرحلة الراهنة، مشيرا، خلال مؤتمر صحفى مشترك عقده مع وزير الخارجية الجزائرى رمطان لعمامرة، إلى التمثيل رفيع المستوى الذى شهدته القمة كدليل دامغ على نجاحها.
ولعل أهم ما نجحت القمة العربية فى تحقيقه هو إرساء العديد من قضايا التوافق، وهو ما بدا بوضوح فى القضية الفلسطينية، والتى نالت قسطا كبيرا فى "إعلان الجزائر"، عبر التأكيد على ضرورة العودة إلى مبادرة السلام العربية، باعتبارها الطريق الوحيد الذى يمكن من خلاله تحقيق السلام فى منطقة الشرق الأوسط، مع التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية والدعم المطلق لحقوق الشعب الفلسطينى غير القابلة للتصرف، بما فيها حقه فى الحرية وتقرير المصير وتجسيد دولة فلسطين المستقلة كاملة السيادة على خطوط 4 يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وحق العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين وفقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لعام 1948.