عادل السنهورى

فيروز في حديقة الأندلس (2)

الأربعاء، 30 نوفمبر 2022 07:38 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ونحن نحتفل هذه الأيام بعيد ميلاد جارة القمر فيروز هذه الأيام (ولدت في 21 فبرير 1934).. أتذكر واحدة من أشهر واجمل وأروع حفلاتها في القاهرة، ولم تكن هي الزيارة الأولى، ولكنها كانت الأجمل والأبهى والأكثر دهشة وإثارة لأسباب عديدة، سوف نتعرف عليها.

 

جاءت فيروز إلى القاهرة ومعها الأخوان رحباني والفرقة الشعبية اللبنانية يوم الأحد 24 أكتوبر 1976 إلى القاهرة، قبلها بأيام جاءت ومعها شقيق زوجها، الضلع الثاني في فرقة "الأخوين رحباني" منصور رحباني، ومتعهد الحفلات السوري يوسف الحاج، لبحث إمكانية تقديم عرض في القاهرة.

تعاقد الحاج مع المخرج السيد راضي على تأجير مسرح حديقة الأندلس المكشوف بالجزيرة.. كان السيد راضي والفنانة منى جبر قد كونا فرقة "الكوميدي شو" التي كانت تدير مسرح حديقة الأندلس وتقدم عليه عروضها.. ننتبه هنا الى حديقة الأندلس التي كانت موطنا للجمال والأناقة وأحد أهم معالم القاهرة الساحرة ومكانا محببا وأثيرا لتصوير كثير من الأفلام وإقامة الحفلات الشهيرة وسيأتي ذكر ذلك لاحقا.

 

عاينت فيروز ومنصور المسرح، الذي كان يقدم عليه في ذلك الوقت مسرحية بعنوان “الدنيا مزيكا” من بطولة منى جبر وصلاح السعدني ومحمد نجم ومحمد أحمد المصري (أبو لمعة). اشترطت فيروز أن يغطى سقف المسرح بخيمة، كما رأى منصور أن خشبة المسرح يجب أن تتسع ويزداد عمقها لتستطيع استيعاب أفراد الفرقة الشعبية اللبنانية من كورال وراقصين.. واتفق الجميع مبدئيا على أن تكون الحفلات في الأسبوع الأول من أكتوبر.

 

إذن لماذا كانت الحفل الأكثر إثارة لفيروز في القاهرة، وربما في كافة الأماكن التي غنت فيها..؟

السر يكمن في شهر أكتوبر من عام 76.. فالأوضاع السياسية في القاهرة وبيروت كانت صاخبة للغاية. فالأجواء مشحونة في القاهرة بصفة خاصة، ومصر كلها بصفة عامة.. الجامعة العربية في القاهرة تتهيأ لانعقاد مؤتمر القمة العربية الثامن في 18 أكتوبر لبحث الوضع الدامي في لبنان بسبب الحرب الأهلية اللعينة.. وفي الوقت نفسه المحافظات والأجهزة الإدارية كلها على قدم وساق من أجل إعداد اللجان الانتخابية للاستفتاء الرئاسي بعد انتهاء المدة الرئاسية الأولى للرئيس السادات.. العام الدراسي الذي بدأ منذ شهر تعطل مرة أخرى بعد الاستفتاء بسبب انتخابات مجلس الشعب، وعلى أغلفة الصحف ظهر السادات يدلى بصوته وبجواره زوجته، والعنوان ضخم أسفل الصورة “أنظف انتخابات في تاريخ مصر“..

في 21 أكتوبر 1976 صدر قرار بوقف إطلاق النار في بيروت أشرف عليه الرئيس اللبناني إلياس سركيس، بعد قتال استمر 19 شهرا..

وصلت الفرقة يوم الأحد والحفل الأول يوم الأربعاء 27 أكتوبر.. الثلاثة أيام المتبقية هي للتجهيز النهائي للمسرح بأجهزة الصوت والميكروفونات التي أحضرتها الفرقة معها أيضًا، وللبروفات على الفقرات التي ستقدمها فيروز والفرقة، اعتذرت فيروز عن الظهور في البرنامج التليفزيوني النادي الدولي الذي كان يقدمه اللامع القدير الراحل سمير صبري، لكن تذهب إذاعة الشرق الأوسط لتحضر جزء من بروفات قصيدة الافتتاح "مصر عادت شمسك الذهب".. فيروز تردد “صِرتُ نَجْم الحُب” ومنصور على البيانو وعاصي يتابع اللحن ويضيف.. يخبرنا المذيع أن الساعة الرابعة صباحًا وما زالت الفرقة بأكملها ساهرة للتمرين.. فيروز لا تترك الأوراق من يدها، يستدعونها للبروفات بين السؤال والتالي.

حضرت فيروز الحفل مع عاصي ومنصور وشقيقتها هدى، وعمدة الأغنية اللبنانية نصري شمس الدين  وألقى منصور رحباني أمام الحضور القصيدة المهداة إلى مصر التي ستفتتح بها فيروز حفلاتها..

جاءت فيروز والفرقة الشعبية اللبنانية إلى مصر بمجهودات فردية لفرقة “الكوميدي شو” دون أي تدخل حكومي من وزارة الثقافة.. في الصحف اقتطع السيد راضي ضمن الدعاية للحفلات ربع صحفة على مدار أسبوع للإعلان عن الحفل المرتقب، تحت عنوان “فرقة الكوميدي شو تقدم لأول مرة في مصر.. فيروز والأخوين رحباني مع الفرقة الشعبية اللبنانية“.. كما وضع أعلى مدخل الحديقة عند نهاية كوبري قصر النيل اعلانا كبيرا، مع صورة لفيروز بفستان هفهاف أصفر تعود للعام السابق، وكانت التذاكر تباع بالأماكن التالية: مسرح الأندلس– كشك فندق شيراتون– كشك أمريكيين سليمان باشا.. والحفلات أيام 27 و28 و29 و30 أكتوبر..

المخرج حسين كمال حاضرا في البروفات.. يراقب حركة الفرقة والراقصين ليعرف أفضل زوايا للتصوير.. ويحفظ حركات وسكنات فيروز فلا تفلت منه آهة واحدة مع الأغاني..

في اليوم التالي، مساء الثلاثاء 26 أكتوبر، قام الأديب يوسف السباعي، الرئيس الفخري لجمعية كتاب ونقاد السينما ورئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام ورئيس تحريرها، بتكريم فيروز باسم جمعية كتاب ونقاد السينما في قاعة البانوراما بصحيفة الأهرام، حيث سلمها جائزة التقدير الذهبية وتمثال للإلهة المصرية إيزيس..

وتكتب الصحافة عن انتهاء التذاكر والأرباح التاريخية التي حققها الكوميدي شو من وراء الحفلات، وانتقدت ارتفاع أسعار التذاكر التي بدأت من 5 جنيهات إلى 30جنيهًا، ثم وصلت إلى 50 للحفل الرابع، وهي أسعار مرتفعة جدًا في ذلك الوقت.. وفي الأهرام رسم صلاح جاهين، صبيحة الحفل الأول، كاريكاتيرا معبرا عن صعوبة الحصول على تذكرة لحفل فيروز..

 ولكن منصور رحباني يعلق بأن أسعار التذاكر مناسبة إذا ما قيست بتكاليف العرض وأجور الفرقة.. وكان يمكن أن نخفض ثمن التذاكر لو أننا حضرنا بدعوة من وزارة الثقافة المصرية أو هيئة المسرح، وكنا نتمنى ذلك.. لكن الدعوة جاءت إلينا من متعهد حفلات، وليس من هيئة رسمية لا يهمها الربح..“.

تشرق فيروز على المسرح كانت بكامل مشمشها ونضجها الفني – كان عمرها في ذلك الوقت 42 عاما- تدخل بجسدها النحيل وملامحها الدقيقة.. انحناءة خفيفة تحيي بها الجمهور، ثم تقف خاشعة كأنها في صلاة تشدو  بقصيدة “مصر عادت شمسك الذهب“ فيشتعل المسرح بالتصفيق والهتاف .. من بعدها تأتي هدى حداد ثم يطل المبدع الرائع  نصري شمس الدين، البطل الدائم أمام فيروز.. يدخل بلباس الناطور الفلكلوري أي حارس الحقل الذي يمضي وقته بالمواويل العذبة.. يتجمع عليه الشباب والصبايا ويطلبون منه أن يغني: يا ناطور يا ناطور.. نسمة زنبق عم بتدور.، وشي دبكة.. وقلتلها..

ينتهي الفصل الأول من الحفل بمقطع من مسرحية جبال الصوان.. ويفتح الفصل الثاني على مشهد الموشحات الفخم بالأزياء الأندلسية.. أرجعي يا ألف ليلة، غيمة العطرِ

السندريلا الجميلة سعاد حسني بين الحضور تكاد تخلع حذاءها لترقص مع اللحن الرائق بصوت الشادية التي جارها القمر وليست هي جارته:" يا ليل الصبُّ متى غده...أقيام الساعة موعده؟ و أغنية:" خايف أقول اللي في قلبي"

إلى الطابق الحادي عشر من فندق شيراتون، حيث تنزل فيروز والفرقة، صعد المذيع المعروف طارق حبيب ليجري حوارا في اليوم الأخير للحفلات.. يوم الحفلة الرابعة.. فيروز مرهقة لم تستيقظ بعد..

يسأل طارق حبيب فيروز عن الفرق بين مجيئها للقاهرة هذه المرة وبين المرات السابقة.

بصوتها الهادئ الرقراق كالندى تجيب: "كانت المرات السابقة التي زرت فيها مصر زيارات عادية.. ولكن هذه المرة جئت لأغني لمصر، ولجمهور مصر.. وأنا دائمًا عندي قلق وخوف عندما أواجه جمهورًا لأول مرة.. قد يعرفني القلة القليلة من الجمهور.. والأغاني التي تسمعونها هنا قديمة.. كما أن الأعمال التي تعرض لي في تليفزيون مصر قديمة أيضا لا ترضيني..

انتهت الحفلات الأربع كالحلم.. ودعت فيروز الجمهور بأغنية “زوروني كل سنة مرة” لسيد درويش، وفي اليوم التالي نشر صلاح جاهين كاريكاتيره الشهير وهو يهتف :" أهو انتي اللي لازم تزورينا كل سنة مرتين تلاته“.

رحلت فيروز والأخوان رحباني والفرقة يوم الثلاثاء 2 نوفمبر 1976 إلى بيروت عن طريق دمشق.. يوم الخميس 4 نوفمبر عرض التليفزيون المصري شريط الحفل الأخير، بعد أن اشترى حقوق إذاعته لمدة ثلاث سنوات من المنتج رمسيس نجيب.. في الأيام التالية تحدثت الصحافة بدهشة وإعجاب عن طريقة أداء فيروز.. إنها المرة الأولى التي يرى فيها الجمهور المصري ذلك الالتزام والانضباط، وانهالت الخطابات على ماسبيرو تطالب بإعادة عرض الحفلة مرة ثانية..

حفل فيروز في حديقة الأندلس كان ثالث رحلة لفيروز الى مصر مع الأخوين رحباني.. الأولى في فبراير 1955 والثانية في أكتوبر 1966 و ثم الثالثة في أكتوبر 1976.. من بعد هذه الرحلات أتى الأخوان رحباني إلى مصر أكثر من مرة بدايةً من 1981.. وأتت فيروز إلى مصر لإحياء حفلها المعروف عند سفح الأهرام يوليو 1989. لكن يبقى حفل الأندلس له جماله وابهاره الخاص جدا... فالمكان كان له بريقه أيضا وهو حديقة الأندلس التاريخية .. ولنا بقية.

 

 







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة