مزايا عديدة ربما تسعى الولايات المتحدة لتقديمها إلى إفريقيا، في إطار مرحلة من الاستقطاب الدولي، ومحاولات واشنطن اقتحام مناطق نفوذ الصين، والتي اعتمدت طيلة السنوات الماضية استراتيجية تقوم في الأساس على حشد الدول النامية، لبناء معسكرها الدولي، في مواجهة القوى الكبرى الحاكمة للعالم، في إطار المنافسة على القيادة الدولية، والمشاركة الفعالة في دائرة صناعة القرار الدولي، وهو ما بدا في انعقاد القمة الأمريكية الإفريقية، التي عقدت مؤخرا في واشنطن، في انعكاس حقيقي لمحاولة اللحاق الأمريكي بالتأثير الصيني الكبير في تلك المنطقة بالعالم، بعد سنوات التهميش والتجريف، في ظل الهيمنة الأحادية.
فلو نظرنا إلى فحوى القمة، نجد أن ثمة مزايا عديدة، سعت واشنطن إلى تقديمها للقارة السمراء خلالها، ربما أبرزها تخصيص مليارات الدولارات، في إطار دعم الدول الإفريقية وتعزيز أمنها، وقدرتها على مجابهة ما يواجهها من أزمات، ناهيك عن الدعوة لإشراكها وتفعيل دورها في العديد من المنتديات والمنظمات الدولية المؤثرة دوليا، وعلى رأسها دعوة الاتحاد الإفريقي إلى عضوية مجموعة العشرين، بالإضافة إلى مقترحات أخرى بتخصيص مقعد دائم للقارة في مجلس الأمن الدولي، وغيرها من المؤسسات الدولية الفاعلة، وهو ما يعكس اعترافا ضمنيا بالدور الكبير الذي باتت تلعبه القارة على المستوى الدولي في ظل المستجدات الدولية والإقليمية، وما يتخللها من أزمات دولية متواترة، يمكنها المساهمة في تقديم حلول جذرية لها، على غرار أزمات الغذاء التي باتت تجتاح قطاع كبير حول العالم، في ظل ما تمتلكه من مساحات شاسعة من الأراضي، يمكنها أن تصبح "مخزن غذاء" العالم.
وهنا تتجلى الأهمية الدولية لإفريقيا، على مسارين متوازيين، أولهما من حيث التأثير فيما يتعلق بالصراع الدولي الراهن حول القيادة العالمية، في ظل إرهاصات مرحلة جديدة من التعددية، تتنافس خلالها عدة قوى لمزاحمة واشنطن على قمة النظام العالمي، وعلى رأسها الصين وروسيا، ناهيك عن محاولات الاتحاد الأوروبي لاستعادة المكانة الدولية، بينما يبقى المسار الأخر قائما على قدرة القارة على المساهمة في حل أزمات العالم، في ظل ما تملكه من إمكانات، حال توفر استراتيجية شاملة، لا تقتصر على تقديم الدعم المالي بصورته التقليدية فقط، وإنما من شأنها تحسين ظروف البيئة وتهيئتها للاستثمار، حتى يمكن الاستفادة من تلك الإمكانيات الكامنة في القارة السمراء في المستقبل القريب.
يعد التصاعد الكبير لدور القارة السمراء، يحتم ضرورة العمل مع مناطق إقليمية أخرى متقاطعة معها جغرافيا، عبر تحقيق أكبر قدر من التوافق معها، سواء على المستوى الجمعي عبر الاتحاد الإفريقي، والذي يمكنه تعزيز التعاون، عبر المنظمات الإقليمية الأخرى، والمساهمة بدور فعال على تجاوز أية تحديات، على غرار جامعة الدول العربية، من خلال الدول الأعضاء في المنظمتين، وفي القلب منها مصر، أو على مستوى الدول، مع العمل على استغلال المزايا الممنوحة للقارة من القوى الكبرى، لتعميق التعاون مع مناطق أخرى، على غرار الصين، والتي تسهم بصورة كبيرة للعمل مع منظمات ذات خبرات اقتصادية كبيرة، على غرار الآسيان، من أجل الانطلاق من مجرد تجاوز الأزمات نحو مرحلة تنموية، وهو الأمر الذي ينطبق على الاتحاد الأوروبي، عبر التقارب الناجم عن انضمام المنظمة القارية إلى مجموعة العشرين، والتي تضم "أوروبا الموحدة" في عضويتها، حيث يمكن استلهام التجارب الناجحة وتطبيقها، للتحول نحو دور فاعل في المنظومة الدولية بصورتها الجمعية في المرحلة الجمعية، والمشاركة في صياغة صورة جديدة للنظام الدولي، على عكس الحقبة الدولية المنقضية، والتي اكتفت خلالها إفريقيا بـ"سياسة رد الفعل"، وبالتالي كانت مستنقعا للاستغلال الدولي دون مقابل حقيقي من شأنه تحقيق مصلحة الشعوب.
وفي الواقع، تبدو اللحظة الراهنة استثنائية وهامة إلى حد كبير، في ظل التحول من مجرد مركز للاستغلال الدولي، لما تملكه إفريقيا من موارد وإمكانات، إلى "نقطة" استقطاب دولي، والتقاعس عن استغلالها سيدفع نحو الدوران في نفس دائرة التبعية المطلق، وهو ما يتطلب حشد القوى المؤثرة على المستوى القاري، للقيام بدور أكبر، والتحدث باسمها في المحافل الدولية، بحكم ما تملكه من مؤهلات كبيرة، سواء تاريخيا أو جغرافيا، ناهيك عن خبراتها الدبلوماسية، التي من شأنها تحقيق مزيد من التواصل مع الأقاليم الأخرى.
الصورة سالفة الذكر، ربما نجحت الدولة المصرية في رسمها إبان قمة المناخ الأخيرة التي عقدت في شرم الشيخ، عبر الاحتشاد الإفريقي منقطع النظير، حيث رسمت بنجاح باهر صورة جديدة لـ"دبلوماسية الإقليم"، على المستوى الإفريقي والتي اقتصرت في الماضي على الاتحاد القاري، في إطار أجهزة الاتحاد ومؤسساته، بينما كانت تغرد كل دولة في سرب منفرد، في ظل الحاجة الملحة لتفعيل الدور الذى تلعبه الدول الرائدة، سواء من حيث تجاربها، على غرار الخطوات الواسعة التي اتخذتها مصر في الداخل لمجابهة التحديات، فصارت نموذجا ملهما يمكن تعميمه في محيطها الجغرافي من جانب، بالإضافة إلى كونها "نقطة اتصال" مهمة بين عدة أقاليم دولية، مما يساهم في تعميق دورها، وهو ما بدا في تدشين " منتدى الهيدروجين الأخضر"، والذي يمثل فرصة قارية مهمة للقارة لتوسيع دائرة التعاون مع أوروبا في المرحلة المقبلة، فيما يتعلق بمكافحة التغيرات المناخية، بينما يفتح الباب أمام المزيد من التعاون على المستوى الاستراتيحي والسياسي والاقتصادي لخدمة أهداف وطموحات وقضايا إفريقيا، ليصبح دور مصر خلال "COP 27" نموذجا يمكن استلهامه وتعميمه في المرحلة المقبلة.
وهنا يمكننا القول بأن "دبلوماسية الإقليم" باتت ضرورة ملحة في المرحلة الراهنة، وعلى إفريقيا استغلالها، عبر مسارين متوازيين، أولهما تطوير مؤسسات الاتحاد الجمعي، لتحقيق أكبر قدر من التوافق بين الدول الأعضاء، بينما يعتمد المسار الأخر على تفعيل دور القوى الإفريقية الفاعلة ذات العمق الدولي، حتى يمكنها تحقيق التواصل مع أكبر قدر من الأقاليم الأخرى، وبالتالي تحقيق المصالح المشتركة، سواء فيما يتعلق بتجاوز الأزمات اللحظية أو الانطلاق نحو التنمية، لتتحول القارة من موقع "المفعول به" إلى "الفاعل"، في إطار مرحلة دولية جديدة.