عندما تسمع اسم منطقة "كفر عبده" فى مدينة الإسكندرية ربما تعتقد أنها إحدى العزب أو القرى أو الأحياء الشعبية فى عروس البحر المتوسط، لكن الواقع هو العكس تماما فالمنطقة تعتبر أحد أرقى أحياء الإسكندرية، مثل حى "جاردن سيتي" فى القاهرة بالطراز المعمارى المعروف، حيث يسكنها النخبة والصفوة فى المدينة الساحلية، بالإضافة إلى العديد من الأجانب المقيمين فى الثغر.
وحتى وقت قصير كان مقر القنصل البريطانى بالإسكندرية فى "كفر عبده"، قبل قرار إلغاء القنصلية، والاكتفاء برمزية المكان. كانت المنطقة مخصصة لمعسكرات ومخيمات الجنود البريطانيين بالمنطقة قبل اتفاقية عام 1936. كانت هذه المنطقة يطلق عليها اسم "المارشال اللنبي"، المندوب السامى البريطانى على مصر فى أعقاب الاحتلال البريطانى لمصر عام 1882، ثم تغير الاسم إلى كفر عبده.
المنطقة الراقية تزخر بـحوالى 80 قصرا وفيلا أثرية وتاريخية، مثل قصر الأميرة فايزة، شقيقة الملك فاروق، وقصر قرداحى، الذى يرجع تاريخ بنائه إلى عام 1905، وتم تشييده على يد أشهر المعماريين الإيطاليين وهو ألدو ماريللي. هو نفس المعمارى الذى شيد قسم باب شرق بشارع أبوقير. وكان القصر مملوكا لمواطن ألمانى مقيم بالمدينة، وتم تشييده على الطراز النيو كلاسيكى، ولكنه لم يسكن فى القصر بسبب الحرب العالمية الأولى، وبعدها تم عرض القصر للبيع، فاشتراه تاجر الأقطان الشامى "جورج قرداحى" ليسكن فيه مع أسرته.
وهناك أيضا قصر الأميرة فوزية وهو قصر معمارى قديم بتصميم رائع، عاشت فيه الأميرة فوزية مع زوجها الثانى إسماعيل شيرين، وولديها نادية وحسين، فى الوقت الذى كانت تعيش فيه ابنتها من زوجها الأول، شاهيناز محمد رضا بهلوى فى إيران.
ومن أقدم الميادين فى الحى الراقى، ميدان "سان جيني" ويقع وسط كفر عبده، وأطلق عليه اسم المهندس المعمارى الذى كتب كتاب تخطيط مصر، حيث كان يسمى فى البداية ميدان إيزيس، نظرا لوجود تمثال إيزيس بوسط الميدان.
لكن كيف تحول اسم الحى الراقى بالإسكندرية إلى "كفر عبده"؟
بالمناسبة قصة كفر عبده تحولت إلى مسلسل إذاعى باسم "صقر السويس" بطولة حسن يوسف وصفاء أبو السعود وكريمة مختار وجمال إسماعيل وأحمد خميس وعبد المنعم عوف، تأليف وحوار فوزى البارودى، وإخراج محمد السيد، وتحكى قصة أحد أبطال المقاومة الشعبية فى السويس وهو المناضل عبد المنعم القناوى من أبناء محافظة السويس الباسلة، أحد أبطال المقاومة الشعبية ضد الاحتلال وحتى نصر أكتوبر المجيد والذى سجل التاريخ اسمه بـ (صقر السويس) بسبب البطولات التى حققها، المواقف الصعبة التى تعرّض لها أثناء العمليات الفدائية التى قام بها، ومجموعة الفدائيين الذين كانوا معه.
فى ذلك الزمن من عام 1951 -وفى مناسبة احتفال مصر بأعياد النصر من كل عام فى 23 ديسمبر- كانت الجريمة الوحشية التى ارتكبها الإنجليز ضد أحد أحياء مدينة السويس يسمى كفر أحمد عبده، وانتهت بتدميره من الوجود. وكانت الحجة المعلنة أن القيادة البريطانية أرادت أن تشق طريقا يصل هذه المعسكرات مباشرة بوابور المياه دون أن تتوسطه مساكن الأهالى، فاعتزمت هدم هذا الكفر. لأنه يقع فى الطريق الذى أرادت شقه، وهذا الكفر يتألف من 156 منزلاً يسكنها نحو 2000 شخص.
فى 5 ديسمبر من عام 51 طلب الجنرال أرسكين القائد العام للقوات البريطانية فى منطقة القنال من محافظ السويس وقتها إبراهيم زكى الخولى إخلاء منازل هذا الكفر قبل قيام القيادة البريطانية هدمها فى صباح يوم 7 ديسمبر، واتصل المحافظ بوزارة الداخلية، فرفضت طلب القيادة، وأمرت قوات البوليس بالسويس بحماية مساكن الكفر، والحيلولة دون هدمها، ودفع كل اعتداء يقع على ساكنيها من القوات البريطانية.
وأبلغ محافظ السويس هذا القرار إلى ممثل القيادة البريطانية بعد ظهر يوم 6 ديسمبر، وقررت القيادة إرجاء الهدم 24 ساعة حتى تتاح الفرصة لاجتماع يعقده الجانبان.
يعقد الاجتماع بالسويس ظهر يوم الجمعة 7 ديسمبر، وأصر الجانب المصرى على الرفض، وأعلنت القيادة البريطانية تصميمها على تنفيذ ما اعتزمت، وأعلنت وأنذرت أنها ستبدأ أعمال الهدم باحتلال الحى فى الساعة السادسة من صباح يوم السبت 8 ديسمبر بقوات كبيرة من المشاة تؤيدها المدفعية والدبابات، وأنها ستباشر الهدم فى هذا اليوم، وطلبت إخلاء منازل الكفر من سكانها تمهيدًا لهدمها فى اليوم التالى.
اجتمع مجلس الوزراء المصرى بصورة طارئة فى بيت مصطفى النحاس بعد ظهر يوم الجمعة، وقرر رفض طلب القيادة البريطانية، وعهد إلى المحافظ باتخاذ الإجراءات اللازمة لمقاومة كل اعتداء يقع على الأهالى، ومقاومة تنفيذ الإنذار بالقوة إذا لزم الأمر.
تدخل السفير البريطانى رالف ستيفنسن فى الأمر. واتصل تليفونيا يوم 7 ديسمبر بالجنرال أرسكين فى (فايد) وطلب إليه إرجاء تنفيذ الإنذار حتى يمكن الوصول إلى حل أقل خطورة مما طلب، ولكن أرسكين أصر على إنذاره، متعللاً بأن الضرورات العسكرية تقضى بتنفيذه فى الموعد الذى حدده.
وأسرعت السلطات البريطانية فحشدت قوات ضخمة من ستة آلاف مقاتل. تعززهم نحو 250 دبابة و500 مصفحة من مختلف الأنواع والأحجام، وحوالى 50 سيارة من سيارات الإشارة، وعدد من الطائرات الحربية، كل ذلك لاكتساح حى كفر أحمد عبده فى الموعد المحدد، وهو صبيحة يوم السبت 8 ديسمبر سنة 1951. وحاصرت القوات البريطانية مدينة السويس ليلاً، ووقفت بعض البوارج الإنجليزية فى الميناء مصوبة مدافعها نحو المدينة، مستعدة لضربها بالقنابل عند أول إشارة تصدر إليها.
وقد أدرك محافظ المدينة ما يتم تدبيره فاجتمع مع المسئولين والقيادات الشعبية فى المدينة مساء 7 ديسمبر ، ورأوا تفادى مقاومة الإنجليز فى عدوانهم الغاشم ليتفادوا تدمير مدينة السويس إذا اشتبك رجال البوليس بالقوات البريطانية.
لكن وزير الداخلية وقتها فؤاد سراج الدين أصر على قرار الوزارة، وأمر المحافظ بالهجوم والضرب من علمه أن القوات البريطانية مهدت للهجوم باحتلال سطوح بعض المنازل والعمارات فى المدينة لتقضى على كل حركة مقاومة. وانتهى قرار المسئولين فى المدينة إلى عدم تنفيذ أوامر وزير الداخلية وقرروا عدم التعرض للقوات البريطانية فيما اعتزمت من عدوان.
واضطر سكان الحى -300 أسرة- إلى إخلاء منازلهم ليلاً فى مشهد يثير الحزن والأسى. وفى الساعة العاشرة مساء تقدمت القوات الإنجليزية بدباباتها وسياراتها المصفحة ومدافعها الثقيلة، وحاصرت الكفر تمهيدًا لنسفه. وقبيل فجر يوم السبت 8 ديسمبر سنة 1951 قطعت السلطات البريطانية المواصلات التليفونية والتلغرافية بين السويس وما عداها من المدن والجهات، كما قطعت كل طرق للمواصلات الأخرى، وعزلت المدينة تماما.
وفى الصباح الباكر من هذا اليوم المشئوم زحف ستة آلاف جندى بريطانى على الهدف الذى حددوه، وقاموا بحصار منطقة واسعة حول كفر أحمد عبده، وأطبقوا عليها بدباباتهم ومدافعهم، واحتلت قوة منهم سطوح جميع المنازل المحيطة بالمنطقة المذكورة، ونصبوا مدافع الميدان البعيدة المدى، وصوبوها نحو المدينة، وعززت هذه القوات بأربعة آلاف جندى آخرين، كما عسكر جنود المظلات فوق سطوح العمارات، وأخذت طائراتهم الحربية تحلق فوق المنطقة المحاصرة على ارتفاع قليل.
أرسل محافظة المدينة نبأ هذا الزحف بطريق اللاسلكى إلى وزارة الداخلية، وأشار إلى خطورة تقدم رجال البوليس من مواقعهم لصد الإنجليز، لبعد مرمى قنابل المدافع البريطانية وعدم إمكان وصول نيران بنادق البوليس إلى مكان الحشود البريطانية.
فأجاب وزير الداخلية على هذه البرقية بأن على رجال البوليس أن ينفذوا قرار مجلس الوزراء بمقابلة القوة بالقوة.
فرد المحافظ على هذه البرقية ببرقية لاسلكية أخرى بأنه يتعذر على قوات رجال البوليس -400 جندى فقط- الوصول إلى المكان الذى تهدم من المنازل، لاحتشاد قوات بريطانية مسلحة تزيد على عشرة آلاف جندى، وعدد كبير من الدبابات ومدافع الميدان تسد الطريق إلى هذا المكان، وأن نائب المدينة وأعضاء البلدية وأعضاء اللجنة القومية بها قابلوه وطلبوا منه بإلحاح منع التصادم بين رجال البوليس والجيش البريطانى، حقنًا للدماء، وحفظًا للأرواح.
فرد وزير الداخلية على هذه البرقية ببرقية إلى المحافظ بتنفيذ التعليمات السابق صدورها إليه بالمقاومة إلى النهاية، مع أخذ الاحتياط اللازم لعدم إصابة الأهالى بأى أضرار.
واتصل رئيس قوات البوليس بالمدينة (اللواء مصطفى المتولي) ونائبها بالوزير، وأفهماه أن وضع قوات الطرفين بالنسبة لبعضهما لا يسمح بأى اشتباك بينهما دون تعريض الأهالى للخطر المحقق، فأمر الوزير قائد البوليس باتخاذ كل الإجراءات اللازمة التى تكفل الجميع بين تنفيذ أوامر الحكومة بالمقاومة وبين صيانة أرواح الأهالي..!!
وزحفت قوات الهدم والتدمير على الحى الحزين، وهاجمت منازلهم البالغ عددها 156 منزلاً، ونسفتها بالقنابل تحت حماية دباباتها ومدافعها وطائراتها ، ونسفتها بالألغام، والمبانى التى استعصت على الهدم كان جنود المظلات يشغلون النار فيها ليسهلوا مهمة هدمها وتدميرها.
وزال حى كفر أحمد عبده من الوجود بهذه الوسيلة الهمجية، وصار بعد نسفه أطلالا من الخرائب
استنكر العالم الجريمة البشعة واستقواء جيش ضخم على منازل قرية صغيرة والتى جاءت ردا من الانجليز على قطع مصر للمفاوضات السياسية مع بريطانيا وإلغاء معاهدة 36 يوم 8 أكتوبر 51 وفى اعقاب ذلك نشطت المقاومة الشعبية فى كفر عبده التى كانت قريبة جدا من معسكرات الانجليز فى السويس، وغيرها من قرى وأحياء مدن القنال وهو ما أثار غيظ وغضب الانجليز فقرروا إزالة كفر عبده انتقاما منهم وظل هذا العار يلاحق الانجليز حتى يومنا هذا
هنا بدأت حكاية كفر عبده بمدينة الإسكندرية وأهلها الشجعان..
انتشرت قصة ما جرى من وحشية الانجليز ضد القرية السويسية فى أنحاء القطر المصرى وتعاطف المصريون مع القرية.. وفى قرار شجاع له مغزى كبير قرر أهالى مدينة الإسكندرية.
إطلاق اسم "كفر عبده" على أرقى الأحياء فى المدينة حتى تعيش الحكاية ويرددها جيل بعد جيل وتبقى فى الوجدان الإنسانى للتذكير بالعار البريطاني.
وفى الحى الذى كان يطلق عليه اسم المندوب السامى البريطانى" اللنبي" وحيث يسكن المندوب السامى من بعده " كيتشنر " والقنصل الإنجليزى بالإسكندرية وكبار الشخصيات الإنجليزية والجاليات الأجنبية، طلب الأهالى تغيير الاسم إلى كفر عبده واستجابت الحكومة وصدر قرارا بتحويل الاسم وتغيير اسم الشارع الرئيسى فيها أيضا بنفس الاسم.. كفر عبده حتى يبقى الاسم يردده الانجليز والأجانب القاطنين فى الحى الراقى.
وحتى الآن مازالت القنصلية الإنجليزية موجودة فى الحى وتأتى اليها ومنها المراسلات باسم "كفر عبده".. ورحل الاحتلال وبقى رمز المقاومة الشعبية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة