لا شك أن المدن الجديدة، والتي شرعت الدولة في تنفيذها في السنوات الماضية، وآخرها مدينة المنصورة الجديدة، تمثل جزء رئيسي من خطة التنمية المستدامة، عبر خلق مساحات جديدة يمكنها استيعاب النمو السكاني، مع الحرص تعزيز كافة العوامل التي من شأنها جذب مزيد من الاستثمارات، لخلق فرص عمل حقيقية للشباب، وبالتالي تقديم حلول واقعية لأزمتي البطالة والهجرة المتزايدة إلى العاصمة، ناهيك عن كونها جزء لا يتجزأ من استراتيجية، شاملة تقوم على توسيع حدود الأقاليم القائمة، من خلال اقتحام الصحراء، وتحقيق الترابط فيما بينها، من استغلال الإمكانات المتاحة في منطقة، لزيادة الانتاج في كافة المجالات، وبالتالي تحقيق الهدف الأهم في المرحلة الراهنة وهو الاكتفاء الذاتي في كافة، أو على الأقل معظم القطاعات، على غرار الزراعة والصناعة والطاقة.
الرؤية المصرية انطلقت مع مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، والتي تمثل نموذجا للمدن الذكية، وأكبرها في منطقة الشرق الأوسط، ثم العما على استنساخها في المحافظات الأخرى، سواء في الصعيد أو الدلتا، أو شمال مصر وشرقها، من خلال ما يمكننا تسميته بـ"إعادة هيكلة الجغرافيا الإقليمية" للدولة المصرية، من خلال توسيع مساحتها، وتدشين عواصم إدارية إقليمية لكل منطقة جغرافية تحقق التواصل مع كل محافظات الاقليم، وهو ما يمثل طفرة تنموية هامة، في ظل تدشين نطاق أكبر للمحافظات، بينما صارت ترتبط ببعضها عبر شبكة عملاقة من الطرق، مع تطوير وسائل المواصلات، مما ساهم إلى حد كبير في تحقيق الاتصال بين محافظات الاقليم الواحد من جهة، وبين أقاليم المحروسة من شرقها إلى غربها، من جهة أخرى، من خلال ترشيد الوقت والجهد والتكلفة، التي يستغرقها الوصول من منطقة إلى أخرى، وهو ما يمثل فرصة جيدة لتشجيع المستثمرين على الدخول إلى السوق المصرية وزيادة انتاجهم والترويج له عبر الوصول السهل إلى مختلف مناطق الجمهورية.
وهنا نجد أن "إعادة هيكلة الجغرافياالإقليمية" التي باتت تعتمدها الدولة المصرية، تقوم في الأساس على عاملي الانتاجية والاتصال، عبر تحويل المحافظات إلى بؤر منتجة، ومشاركة في العملية التنموية، بينما يتحقق التواصل فيما بينها عبر أدوات البنية الأساسية المستحدثة، من خلال شبكات الطرق والمواصلات والأهم من ذلك إعتماد التكنولوجيا الحديثة، وهي العوامل التي من شأنها خلق حالة من التكامل بين الأقاليم داخل الدولة المصرية، عبر تنويع مجالات الإنتاج، بدلا من الاعتماد على مناطق بعينها، خاصة في العاصمة وما حولها، لتكون مركزا للانتاج بينما تعاني الغالبية العظمى من مساحة الدولة للإهمال، على غرار ما شهدته مناطق الصعيد والدلتا، وما ترتب عليه من تجريف للأراضي وتنامي للبطالة وتدفق كبير من السكان للتكدس في القاهرة الكبرى، بينما باتت المناطق الصحراوية "مهجورة"، ليس فقط بسبب غياب الخدمات، وإنما في حقيقة الأمر لانعدام الطموح.
فلو نظرنا إلى فكرة تدشين مدن جديدة في قلب الصحراء، نجد أنها ليست جديدة تماما، ولكنها اقتصرت طيلة عقود على تقديم مشروعات سكنية بأسعار مناسبة، لتخفيف العبء على العاصمة، بينما تجاهلت تلك الرؤية القديمة قضية التنمية واستغلال تلك المساحات، ليس فقط لتقديم السكن المناسب للمواطنين، وإنما أيضا لتوفير فرص العمل المناسبة في محيطه، من خلال استغلال إمكاناتها وتوفير المزايا للمستثمرين حتى يمكنهم اقتحامها، وبالتالي لم تتمكن من الدولة من حل أزمة التكدس، في ظل بقاء مراكز العمل والإنتاج في العاصمة، لتظل حالة الازدحام مهيمنة على القاهرة، مع توافد سكان المدن الجديدة كل صباح لأعمالهم بها، رغم توفير مساكن في مناطق أخرى، وهو ما يفسر غياب الاستجابة من قبل قطاع كبير من المواطنين لفكرة الانتقال للحياة في المناطق الجديدة.
ونظرا لارتباط الحالة التنموية، في جزء كبير منها، بجذب الاستثمارات الأجنبية، نجد أن ثمة بعدا دبلوماسيا تتخلل الاستراتيجية المصرية في عملية "إعادة بناء" الأقاليم، يقوم على الترويج لها ولما تحمله من إمكانات كبيرة، من خلال استضافتها للأحداث الكبرى، على غرار مدينة العلمين الجديدة والتي استضافت رؤساء عدة دول عربية، في قمة جمعتهم بالرئيس عبد الفتاح السيسي، وهو ما يساهم في إضفاء المزيد من الزخم الدولي لها، ناهيك عن كونها فرصة لتسليط الضوء على إمكاناتها الاستثنائية، وكذلك تقديم الوجه الحقيقي لـ"الجمهورية الجديدة"، والتي تسابق الزمن لتحقيق التنمية المستدامة.
وهنا يمكننا القول بأن بناء المدن الجديدة ليس مجرد "شو" إعلامي، وإنما جزء من استراتيجية مصرية متعددة الأبعاد، تحمل في طياتها أبعاد متداخلة، في القلب منها تحقيق التنمية الاقتصادية في الأقاليم المصرية، بعد عقود من التهميش التي عانته سواء على مستوى الجغرافيا أو السكان، بالاضافة إلى تخفيف العبء على كاهل العاصمة، ناهيك عن تقديم صورة مصر الجديدة للعالم.