في طابور أسماء المثقفين والمبدعين للمصريين والعرب تكثر الأسماء، ولكن إذا أردت أن تختار أسماء تصف أصحابها بالنجوم قل عدد من يقفون بالطابور ذاته، أما إذا أردت أن تصف عددا من هؤلاء المثقفين والمبدعين بأنه (رجل نبيل) فإنك تتكلم عن أسماء قليلة للغاية، يصح أن تصفها بالنادرة! هؤلاء الذين تساموا عن المكسب المادي برغم قدرتهم الواسعة على تحقيقه، وتساموا عن استغلال شهرتهم، وقد كان ذلك أمرا يسيرا معروضا عليهم طوال الوقت.. وتساموا عن مزاحمة رفاقهم في المشاهد مع أنهم في الحقيقة هم من صنعوا هذا المشاهد!
كمال النجمي واحد من كبار هؤلاء الذين تساموا.. لا نقول هذا من باب الإطراء، فالرجل مات قبل 24 عاما من الآن (توفي في مثل هذه الأيام تحديدا في 14 فبراير 1998)..ولكننا نقوله من باب إثبات الحقائق لله وللتاريخ ليس إلا!
كمال النجمي الذي عرفه الناس رئيس تحرير لمجلة الكواكب (من 1971 إلى 1980) ثم مجلة الهلال (1982الى 1984)، وعرفوه قبل ذلك شاعرا من أعظم شعراء الفصحى، وعرفوه قبل ذلك وبعده رائدا للنقد الموسيقي والغنائي، وعلما في الكتابة التاريخية كذلك، وصاحب 15 كتابا فريدا في المكتبة العربية، لاتزال مرجعية عليا لكل من يطلب القراءة في الغناء العربي والشعر والأدب والتاريخ.
كمال النجمي ليس كل هذا وحسب.. بل إن هناك جانبا شديد الأهمية لا يذكره من يعرفونه. .وإن كان أبناء جيله عرفوه جيدا وذكروا عنه هذه الصفة كثيرا ..صفة التسامي! والأمثلة كثيرة!
الرجل الذي حصل على جائزة مجمع اللغة العربية الأولى في شعر الفصحى 1951 وعمره يومئذ 28 عاما وحسب - وقد كانت أكبر وأقيم الجوائز الأدبية آنذاك قبل أن تؤسس الدولة نظام الجوائز الأدبية من الأساس -ترك الشعر طواعية واختيارا في العام 1965وهو ابن 42 عاما وحسب ونشر قصيدته الأخيرة (اغتراب) معلنا اعتزاله الشعر.. لم يذكر وقتها لماذا اعتزل ..لكن السبب هو التسامي ..قال لي أنه رأى الشعر العمودي الموزون المقفى الذي يكتبه قد ولت دولته وسطعت شمس قصيدة (التفعيلة) ودعمها النقاد .. ولم يكن النجمي على استعداد لأن يدخل في حرب غير شريفة وحيدا من أجل القصيدة فاعتزل وقلبه دامع وظل حزينا على هذه المعركة التي تسامى فيها حتى آخر أيام حياته.
فهل اعتزل القصيدة لأنه لا يكتب بالتفعيلة أو لأنه بتعبير آخر ضد القصيدة الجديدة أو بتعبير ثالث لأنه رجعي؟.. الإجابة تصدم القارئ فقد كان النجمي اشتراكيا تقدميا لدرجة أنه كان ينتظر اعتقاله في هوجة اعتقال الشيوعيين عام 1958.. ونجاه الله بأعجوبة.. وعرف بعد ذلك أن استقالته من الحزب الشيوعي المصري عام 1955 هو السبب الذي جعل الأمن يستبعد اسمه من كشوف الاعتقال.. لقد أمن النجمي إذن بالقصيدة العمودية العربية القديمة وكان ممن يعتنقون فكرة (التجديد في المضمون لا الشكل) وكان يضرب المثل لمن يهاجمون شعره في الخمسينيات بالشاعر العراقي العظيم مهدي الجواهري الذي عاش طوال حياته يكتب القصيدة العمودية وكان شيوعيا ! وبمناسبة الحزب الذي تركه النجمي فقد تركه من باب التسامي أيضا وقال لي أن الاشتراكي الحقيقي أكبر من أي حزب وان أي صاحب مبدأ سياسي أكبر من الحزبية حتى لو كانت الحزبية لها مكاسب ففي النهاية يربح المناضل نفسه التي يخسرها هؤلاء الحزبيون!
وفي منتصف الثمانينيات كان بمقدوره الاستمرار في رئاسة تحرير الهلال لولا انه تسامى عن نفاق قيادات صحفية كانت ملء السمع والبصر آنذاك فلم يجاملهم ولا داهنهم.. تسامى كعادته! وبعد تركه المناصب كان بإمكانه أن يسافر هنا أو هناك ويحصل على أموال بلا حدود وسيارات وبيوت عرضت عليه من دول خليجية لكي يعمل فيها فرفض أن يغادر مصر.. تسامى عن أن يصبح مليونيرا! حتى بيته الذي اختار السكنى فيه في المنيل.. اختاره بمنطق التسامي إذ اختار شقة صغيرة المساحة نسبيا ولم يختر شقة أكبر في نفس البناية.. سألته عن هذا فقال انه لا يرى معنى للمساحة الكبيرة سوى (الفشخرة).. إنه التسامي أيضا!
بل حين دنا الأجل في العناية المركزة بمستشفى العجوزة في مثل هذه الأيام من 1998 أوصى ابنيه بأن يدفن في مسقط رأسه في نجع حمادي بقنا.. برغم انه يعلم أن له محبين سيتمنون لو زاروه في قبره ..تسامى حتى عن حبهم..! فهل ندم؟ سألته في الشهور الأخيرة من حياته سؤالا غير مباشر عن هذا المعنى فقال انه على المستوى الشخصي لم يندم على اختياراته ولكن إذا قاس حياته بحياة أقرانه فإنه لم يصح له شيء!
هذا الجانب -التسامي والترفع- هو المفتاح الحقيقي لشخصية كمال النجمي النبيلة.. بقي أن أرد على سؤال: ومن اين عرفت هذه التفاصيل.. هل لأنك من أقرباء الرجل؟ أقول لأنني ابنه الأصغر.. كان ولايزال أستاذي وصديقي والروح الحية في داخلي..!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة