أكرم القصاص - علا الشافعي

حازم حسين يكتب: مأزق الناتو وفرصة بكين.. روسيا تتمرد على رؤية واشنطن وأوكرانيا تتورط فى "عض الأصابع".. صدام القانون بالأمن يهدد النظام العالمى.. وبوتين يستغل رتابة الخصوم وموسكو تخسر حرب الدعاية وتكسب المواجهة

السبت، 26 فبراير 2022 03:21 م
حازم حسين يكتب: مأزق الناتو وفرصة بكين.. روسيا تتمرد على رؤية واشنطن وأوكرانيا تتورط فى "عض الأصابع".. صدام القانون بالأمن يهدد النظام العالمى.. وبوتين يستغل رتابة الخصوم وموسكو تخسر حرب الدعاية وتكسب المواجهة بوتين وزيلينسكى والحرب الروسية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ذهبت واشنطن مع طابور طويل من حلفائها إلى مجلس الأمن وهم يعرفون النتيجة سلفا. لم يكن الغرض تمرير قرار بإدانة العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا، وإنما بدء جولة جديدة من الدعاية السياسية، إلى جانب التغطية المصنوعة بعناية وتنشيط المنظمات الحقوقية وتعميم سرديّة غربية ترفع شعارات القانون والقيم وتتجاهل خطاب موسكو ومُبرِّراتها. كلمات ممثلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والنرويج وغيرهم من المتفقين على محتوى الإدانة كانت أكثر وضوحا من مسودة مشروع القرار نفسه، إذ كانت صارخة فى انتقاد المنظومة العالمية التى صاغوا معالمها بأنفسهم، ووصل الأمر ببريطانيا إلى انتقاد تركيبة مجلس الأمن وحق النقض "فيتو"، وسرعان ما دخلت "هيومان رايتس ووتش" على الخط نفسه. المعنى أن الغرب الذى طالما وظف النظام العالمى لخدمة مصالحه، غير راض عنه حينما يخدم مصالح خصومه. هذا المدخل يشكل تناقضا إضافيا يُقوّض الصيغة القائمة، التى لم تعد مرفوضة من المتضررين منها والقوى الصاعدة فقط، بل يبدو أنها باتت محل اختلاف واعتراضات من بُناتها والمتربِّحين منها أيضا!.

كان رفض روسيا لمشروع القرار طبيعيا ومُتوقَّعا. ولو أن الولايات المتحدة فى الموقف نفسه لم تكن لتتخذ مسارا مغايرا. صحيح أن موسكو فى الوجه المباشر تجاوزت القانون الدولى، ولم تهتم بإيجاد مسوغ شرعى قبل إطلاق عمليتها العسكرية، لكن تلك النقطة لم تكن من قبل محل نظر وفحص ومُساءلة فى أروقة المؤسسات الدولية عندما يرتبط الأمر بتغوّل من إحدى القوى الكبرى. واشنطن فعلتها مرات عدّة تحت غطاء مشبوه أو من دون غطاء أصلا، بل إن المشروعية المشكوك فيها نُزعت لاحقا مع تكشُّف حقائق وأوراق تجاهلتها الإدارات الأمريكية أو أخفتها عمدًا، كما فى حالة غزو العراق بالعام 2003. هكذا يمكن الحديث عن انتهاك للقانون من جانب روسيا، لكن الأمر لا يحمل أى انتهاك للعُرف الذى أرسته الولايات المتحدة وحلف الناتو. لم يكن القانون محل أولوية واحترام سابقا، ولم يكن حاكما فوق الأهواء ومصالح القوى الكبرى، حتى يُستدعى اليوم فى خصومة سياسية هى نفسها تنطوى على انتهاك لاتفاقات قائمة. حتى الغرب نفسه لا يمكنه إنكار أن محاولات التمدُّد شرقا إلى حدِّ مُلامسة الدب الروسى من داخل القفص تتجاوز تفاهمات الحرب الباردة وما بعدها، بل إنها تتجاوز فلسفة الناتو نفسه من حيث كونه بروتوكولا دفاعيا كان مُوجَّها إلى الاتحاد السوفيتى، بصياغته الآن على وجه هجومى يستهدف الاتحاد الروسى. موسكو باتت ترى الأمر على تلك الصورة، ولديها من فقدان الثقة ما يهدد علاقتها بالغرب، وبالفعل صدر عنها تحذير واضح بأن العلاقة أوشكت على الوصول إلى "نقطة اللا عودة".

ميراث العداء واختراع الذعر

لم يكن "بوتين" قضى أكثر من سبع سنوات فى رئاسة روسيا، وقتما وقف أمام قمة ميونيخ للأمن مُبديًا اعتراضه على صياغة المنظومة الدولية وآليات عملها. الموقف نفسه تجدد مؤخرا عندما قال فى خطاب عن أزمة أوكرانيا: "لا حاجة لنا بعالم لا مكان فيه لروسيا". الحقبة البوتينية التى حملت ميراثا ثقيلا باتت الآن أخف فى الحركة، ولديها رصيد من الخبرة بما يضمره الغرب، وتحديدا الولايات المتحدة وحلف الناتو، تجاه الإمبراطورية القديمة. الآن يبدو أن الطرفين وصلا إلى حالة عميقة من تعقد الفهم وسوء الثقة، ومن ورائهما آخرون إمَّا لا تعنيهم المسـألة، أو يبحثون عن موطئ قدم، أو يضيقون بالنظام العالمى القائم. اللعبة على وجهها القديم لم تعد قابلة للاستمرار من دون كُلفة باهظة، وحتى لو كانت التكلفة مُحتملة، فإن رضا اللاعبين بشروطها غير مضمون، أو فى الحقيقة بات مهتزا وأقرب إلى الغياب!.

منذ انتهاء الحرب الباردة فردت واشنطن مظلتها على أوروبا. بدأ الأمر من "خطة مارشال" ثم جاء حلف شمال الأطلسى. وإلى الآن ما تزال تعتبر القارة العجوز فناء أماميا لها، أو تابعا رهن الوصاية، وتقلق من فكرة أن يشب عن الطوق أو يتمرد على ولايتها. تحتاج الولايات المتحدة إلى فزّاعة دائمة، كانت وما تزال ممثلة فى الإمبراطورية الروسية بتحولاتها ووارثيها، وبينهما كوبا أو العراق أو أفغانستان أو الجماعات الراديكالية أو غيرها، لكن العدو الدائم يقبع فى موسكو. تلك الصيغة لم تعد مُقنعة مع تبدُّل الأحوال وتشابك العلاقات وشراكة روسيا الوطيدة بمراكز أوروبا الكبرى. هكذا كان الأمر يتطلب طاقة شحن جديدة لبطارية الذعر. من هنا دخلت أوكرانيا على الخط.

احتملت "موسكو" كثيرا من التجاهل. كان التحدى الأكبر أن تعبر مرحلة انهيار الاتحاد بجسد كامل، وأن تستعيد عافيتها رغم العواصف وتوابعها. نجحت إدارة بوتين فى ذلك لكنها لم تنس الإهانة، ولم تعد قادرة على قبولها. الجانب الآخر لم يستوعب هذا، أو ربما تعاطى مع الأمر باعتباره محاولة عابرة للتعبير عن القوة. بينما لم يكن الحلفاء على قلب رجل واحد طوال الوقت، بين من يتململون من وصاية واشنطن علنا أو ضمنا، وردّ الأخيرة بأنها تتحمل العبء الأكبر فى موازنة الناتو ومهامه بينما يتخاذل الأوروبيون، ونشاط من بعض دول القارة على غير هوى الأب الأمريكى. واشنطن لا تحب تعاون روسيا مع أوروبا، وتضيق تماما بخطوط الغاز وتتمنى لو أفسدت "نورد ستريم 2". فى حقيقة الأمر يمكن اختزال الأزمة الراهنة وعملية روسيا ضد أوكرانيا فى أنها مواجهة بين موسكو وواشنطن فقط، استُدعى فيها الأوروبيون على غير رغبتهم، ودخلتها "كييف" دون تفكير أو اختيار!


قراءة لمشهد الرسائل الخشنة

حتى الآن لا يمكن الحديث عن حرب، إذ لا توجد حرب من طرف واحد، ومهما كان اختلال التوازن بين الجيشين فما ظهر حتى الآن أقل كثيرا من قدرات الجيش الأوكرانى، ما يشير إلى عجز أو عدم رغبة فى دخول مواجهة مباشرة. صحيح أن روسيا حيّدت أغلب القدرات الأوكرانية مبكرا، عبر ضربات نوعية مركزة أخرجت قدرات الردع الجوية من المعادلة، وحجّمت إمكانية استخدام القوات البرية باعتبارها أصبحت توابيت معدنية مكشوفة لقوة الجو الروسية، لكن حتى تلك المعادلة كانت تحتمل حضورا أكبر مما عليه الحال للقوات الأوكرانية.

الآن نتحدث عن ضحايا بالمئات فى أسوأ الظروف، هناك تضارب فى الأرقام لكن على الأرجح لم نكسر حد المئات، ما يؤكد محدودية التشابك العسكرى، بالنظر مثلا إلى نحو 14 ألف قتيل فى حرب الدونباس بالعام 2014 وما بعده. روسيا لم تعلن حربا شاملة لا إعلاميا ولا عمليا، وأوكرانيا لم تدخل مواجهة حقيقية قياسا إلى سهولة التوغل وقرب سيطرة القوات الروسية على كامل حوض نهر دنيبر.

202002061118231823

ما شاهدناه كان متوقعا تماما، على الأقل من جانب روسيا، ربما يُعزى الأمر إلى تشابكات اجتماعية وتاريخية تجعل نهر دنيبر خطا فاصلا بين سياقين مختلفين تماما. ربما يدخل الأمر منحى مغايرا حال دفع نقطة الارتكاز بعيدا عن النهر ومواصلة التوغل الكاسح بريا باتجاه الغرب. لكن بعيدا من ارتفاع منسوب العداء والكراهية الأوكرانية فى الجانب الغربى، فإن السؤال الأهم عن المستهدفات الروسية من العملية العسكرية وهل يمكن أن تحقق أهدافها دون حاجة لدخول المستنقع أو الاقتراب إلى درجة غير آمنة من الخصم الأورو أطلسى؟

أتصور أن الحديث عن رغبة روسيا فى الخلاص من الرئيس فلاديمير زيلينسكى ماديا أو معنويا قد لا يكون دقيقا. من البداية كان "زيلينسكى" ورقة جديدة يختبر بها الناتو منسوب الغضب لدى الدب الروسى، كما جرى الأمر سابقا مع جورجيا فى 2008. وبالمثل تعاملت معه موسكو كأداة اختبار لحدود الرغبة الغربية فى إعادة تحرير قواعد اللعب المتفق عليها ضمنيا. الواضح إلى الآن أن الطرفين توصلا إلى النتائج المقنعة لكل منهما، ولا فارق إطلاقا بين وجود زيلينسكى مع حكومة يمينية غربية الهوى أو غيابهم وإحلال حكومة موالية لروسيا بدلا منهم.

ضحية فى لعبة "عض أصابع"

أيقنت الطبقة السياسية فى أوكرانيا أنها تخوض المواجهة دون ظهير، وبدأت الحديث مبكرا عن التفاوض، وتطوعت "مينسك" بإعلان استعدادها لاحتضان الحوار. هكذا يبدو أن "كييف" ستذهب بمفردها إلى طاولة روسية مُرتّبة سلفا، حتى لو خيّم ظلّ الحلف الأورو-أطلسى على فضاء اللقاء، وإما أن تخضع تماما لشروط موسكو؛ لتُعلن قطيعة ضمنية مع حلم التحالف الغربى، أو تستهلك الجولة فى المماطلة مع علمها الكامل بأنها ستعود إلى قواعدها بأوضاع أسوأ مما هى عليه حاليا. الرادع المنطقى عن الخيار الثانى حقيقة أن المماطلة قد لا تغير شيئا فى تركيبة المشهد. من غير المتوقع أن يغير الناتو موقفه، وبالتأكيد لن تتراجع موسكو عن موقفها، وأيضا لن تكون العقوبات حاسمة فى المدى القريب على الأقل، أولا لأنها لا تشكل ضغطا حقيقيا على الوجود الروسى فى أوكرانيا، وثانيا لأن روسيا لديها خبرة طويلة فى مناورتها منذ 2008، وباتت أكثر قدرة على استكشاف ثغراتها والنفاذ منها، والأهم أنه رغم أزماتها الاقتصادية إلا أنها تملك وضعية مستقرة نسبيا تضمن لها مواصلة المغامرة لفترة غير قصيرة، بالنظر على الأقل لاحتياطى عالى السيولة يقارب 650 مليار دولار، مع قدر من الفرص البديلة فى محيطها الجغرافى ومع الصين وأمريكا اللاتينية وإيران وبعض دول الشرق الأوسط.

إلى أى مدى يمكن أن يتطور المشهد؟ قد لا تتوفر إجابة كاملة حتى اللحظة، لأن الحدود التى يبدو أنه جرى ترسيمها بالفعل من جانب كل الأطراف يمكن أن تتغير فجأة مع أية مناورة خاطفة أو تحرك غير محسوب. لكن أخطر ما يمكن أن يحدث فى تصورى أن يتجاوز الروس حزام الأمان الحالى عند نهر دنيبر إلى ابتلاع كامل الجغرافيا الأوكرانية، بشكل يضعهم فى مواجهة مباشرة مع الناتو من نقاط التماس عند بولندا وسلوفاكيا ورومانيا والمجر، فضلا عن التماس القائم أصلا مع بحر البلطيق من روسيا وبيلاروس. رسالة موسكو أن الناتو وصل إلى أقصى مدى مقبول من التمدد شرقا، يمكن التعايش مع وضعية دول البلطيق، لكن من غير المقبول أن يُحكَم الخناق أو يُغلَق الطوق. حاول الحلف اختبار ذلك فى 2008 وتلقى ردا حاسما فى جورجيا، وحاول اختباره الآن وتلقى الرد نفسه. باتت حدود التجاوز المقبولة للدب الروسى واضحة للغرب، لكن ماذا عن تجاوزه هو نفسه للحدود؟ وما الحدود المقبولة أصلا من الناتو؟ أتصور أن تصريح الرئيس الأمريكى جو بايدن عن المساس بدول الحلف غير كافٍ للإيضاح، وأن الدائرة الأورو-أطلسية لا تقبل هيمنة روسية كاملة على أوكرانيا، وأتصور أن موسكو تعى هذا جيدا، لذلك لن تستهدف الهيمنة أو الابتلاع أو حتى ابتكار صيغة تابعة ومتماهية معها كما كان الوضع قبل 2014.

أفضل صيغة بالنسبة لروسيا أن تحبس أوكرانيا فى أحلامها. بمعنى أن يكون لديها نظام يمينى أو "بانديرى" حتى - نسبة لرمز القوميين الأوكرانيين ستيبان بانديرا - بما لا يُحسب عليها أو يجعلها طوال الوقت شمَّاعة لإجهاض الحلم الغربى لدى أوكرانيا، وفى الوقت نفسه تظل "كييف" عاجزة عن الالتحاق بهذا الحلم إما بتفاهمات مقيدة لها برضاها، أو ردع معنوى معلق للحاضنة الغربية، ربما لهذا تحدث "بوتين" أكثر من مرة عن الخيارات الخشنة والردع النووى بلغة مكشوفة وتهديد واضح لا ينسجم مع شخصيته المعتادة، ولم يكن له مبرر مفهوم فى مشهد مفتوح حدد الغرب بنفسه حدود اشتباكه معه مبكرا للغاية وقبل إطلاق أية رصاصة.

الحياد الصعب والربح السهل

لا تريد روسيا الإجهاز على أوكرانيا، من مصلحتها أن تكون جسدا مريضا لا جثة متحللة. بحسب تصريحات وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف: "قرر الرئيس بوتين إجراء عملية عسكرية خاصة لتجريد أوكرانيا من السلاح واجتثاث النازية منها، حتى يتمكن الأوكرانيون أنفسهم، بعد تحريرهم من هذا الاضطهاد، من تقرير مستقبلهم بحرية". المعنى أن موسكو تُريد من أوكرانيا أن تكون بلدا محايدا، وأن تعود حزاما عازلا يؤخر المواجهة المباشرة مع الناتو. على أن يتكفل الزمن بحسم الصراع فى جبهات أخرى أو بوسائل وأدوات غير الصدام.

الأزمة أن الولايات المتحدة ما تزال تدير صراعها مع روسيا بمنطق الحرب الباردة. بينما لم يعد "الناتو" قادرا على الاضطلاع بدوره القديم، أولا لأن الاقتصاد والعلاقات الدولية والمصالح تشابكت بين المعسكرين، وثانيا لأن موازين القوى اختلفت شكلا ونوعا، إما باستعادة الخصم القديم لتوازنه أو بروز خصم جديد فى شرق آسيا. وإلى ذلك بدأت مناورة الغرب لـ"موسكو" من نقطة خاطئة؛ لأنهم تخيلوا إمكانية الحصار المباشر فى سياق مغاير لصراعات الكتل الجغرافية القديمة، وتخيلوا أنهم كما أفلتوا بـ"بحر البلطيق" يمكن أن يفلتوا بأوكرانيا.

حتى اللحظة، أوكرانيا الطرف الأكثر تضررا، ليس لأنها تختبر خشونة روسيا فقط، ولكن لأنها فقدت مفاتيح التوازن مبكرا. ورطها الغرب بداية فى اتفاقات مينسك بدون خطوط رجعة منطقية أو ضمانة حقيقية من غضب روسيا. ثم ورطها فى حلم التحالف إلى حد "دسترته" وتحويله إلى مسألة وجودية، وورطها فى تصعيد ساذج بتدفقات السلاح والخبراء ومحاولة توظيفها داخل لعبة الحلف بدون مزايا العضوية، وأخيرا دفع بها إلى صراع بالوكالة ليس فى يدها أية ورقة من أوراقه، والنتيجة أنها باتت مجبرة على حدود أدنى مما أمّنته مينسك سابقا، وعارية الآن من غطاء الناتو، اللهم إلا تصريحات جوفاء من قادة يختلفون على طبيعة الحلف وأدواره ومسؤولياتهم داخله. لن يتطور الوضع إلى ابتلاع روسى لأوكرانيا، ولا إلى حرب عالمية، لكنه سيضمن لروسيا حزاما أمنيا كانت تطالب به بهدوء والآن ترسمه بخشونة، إما على كامل الجغرافيا الأوكرانية فى أفضل الظروف لموسكو، أو فى حزام جمهوريات الدونباس فى أسوأها؛ لو نجح الغرب فى استعادة توازنه وسارت الأمور إلى ضم أوكرانيا المبتورة للناتو.

الأسابيع الأخيرة كشفت ملمحا جديرا بالطرح، أعتقد أنه يُلخص نظرة غربية بشأن احتواء روسيا بقدر الإمكان، وبأية فاتورة، انتظارا لمرحلة ما بعد "بوتين"، مع رهان ربما لا يكون خاطئا تماما على أن روسيا لن تكون وقتها كما هى الآن. فى مقابل ذلك استغل "بوتين" بطء الخصوم ورتابة أدائهم، وأزماتهم الداخلية. تُرجِمَ هذا عمليا فى الارتباك وضعف الاستجابة وعدم القدرة على قراءة المتغيرات والتعاطى معها، بل وفى العجز عن الاتفاق على ردٍّ يظل فى أقصى حالاته المُمكنة أقل من سخونة المشهد. أما أهم ما فى الأمر، أن الأزمة الحالية كاشفة لمأزق الناتو وتناقضاته الداخلية، وهى تناقضات قديمة ومُتجددة، وتعمّقت مع استشعار بعض أطرافه أن حزمة العقوبات المأمولة ربما تمس مصالحها، فجرى تعديلها بالشطب والاستبعاد، جرى هذا من أجل ترشيد الأضرار، لكن معناه العميق أن الحلفاء لم يعودوا جاهزين لتحمل الكُلفة كما تريدها واشنطن أو سداد فاتورة مُشترياتها إذا لم يكونوا راضين عنها كاملة.

الرابح دون كُلفة هى الصين، ليس من زاوية أنها قد تضم تايوان، لأننى أتصور أن "بكين" تؤسس مرحلتها التاريخية على تصور أوسع من فلسفة الإمبراطورية الأمريكية. اختارت الصين بناء رؤيتها على التوسع الناعم بأدوات الاقتصاد والتجارة والسياسة، لا على التوسع الجغرافى استعماريا أو بتحالفات جغرافية، ما يجعل فكرة حصارها صعبة حتى لو تمددت أساطيل الخصوم وأغلقت بحر الصين نفسه. هل يتشكل عالم جديد؟ أتصور أن السؤال لا إجابة صريحة له حتى الآن. تُرسم الآن ملامح مغايرة لكنها لا ترقى إلى درجة القول إننا بصدد نظام عالمى جديد فى غضون سنوات أو عقود قليلة، خاصة أن التحالف الروسى الصينى، الضمنى والمعلن، ينطوى على تناقضات تكفى لإبطائه. تعمل روسيا بمنطق جغرافى مشابه لمنطق خصومها، والصين لا تعنيها الجغرافيا كثيرا (باستثناء تايوان لأنها تعتبرها مسألة وطنية جذرية) ويمكن بقدر من التبسيط القول إن الصين تراقب لتُحدد طبيعة الجولة المقبلة، وربما بدا ذلك واضحا فى امتناعها عن التصويت بجلسة مجلس الأمن.

مأزق أن تكون الأخير

المخطئ الوحيد فى المشهد فلاديمير زيلينسكى - وإدارته بالطبع - لأنهم لم يحسنوا استيعاب درس جورجيا، ولم يقرأوا رسائل 2014 على وجه صحيح، وتماهوا مع الناتو تطوعا بدرجة أكبر مما كان الحلف نفسه يسعى إليها. وأهم من ذلك أنهم لم يحسنوا قراءة الجغرافيا الأوكرانية نفسها واستيعاب مأزق أن تكون آخر حزام عازل بين قوتين كبيرتين، إذا حاولت إحداهما استمالتك ستخسر، وإذا ملت أنت لإحداهما ستخسر، وإذا قررت الحياد ستخسر أيضا، وعليك أن توازن بين دوائر الخسارة وقدرتك على احتمالها، لا أن تطمع فى مكاسب لن يسمح أى منهما بتمريرها حتى لو كنت محايدا، خوفا من أن تلعب إلى جانب الخصم مستقبلا.

خريطة أوكرانيا

إلى الآن لا تبدو المخاوف المُثارة منطقية، سواء من يتحدثون عن تطور الأمور إلى مواجهة عسكرية شاملة، أو الحديث عن "بلقنة" أوكرانيا باعتبار أن التقسيم سيكون خيارا مريحا لروسيا، أو حتى من يرجحون إسقاط الإدارة الأوكرانية وتنصيب إدارة موالية لموسكو. إذ لا يصب أى منها فى صالح الأطراف المتصارعة أصلا، فلن يقبل الغرب إلحاق "كييف" بروسيا مجددا ولن يدخل مواجهة شاملة ولن يشجع التقسيم، وبالمثل فإن موسكو وإن أعلنت جاهزيتها للحرب فإنها لا تريدها، ولن يكون التقسيم حلا آمنا لأنه يُفتت النقطة الساخنة والثغرة المزعجة بالنسبة لها إلى ثغرات عديدة ونقاط التهاب يصعب تطويقها أو السيطرة عليها بكفاءة طوال الوقت، كما أن الحكومة الموالية ليست أمرا سهلا بالنظر إلى الموقف الشعبى.

خريطة أوروبا

رغم هذه الترجيحات فإنه لا يمكن الجزم فعلا بما ستؤول إليه الأمور. يمكن أن ينتهى المشهد بهدوء إلى وضع مجمد كما كان، ويمكن أن يتطور إلى مواجهات جزئية أو شاملة، فالتاريخ يحمل شواهد سابقة على إمكانية أن يشعل الساسة حروبا فى لحظة بقصد أو دون قصد، وإن كنت أتصور أن نقاط الجولة قد تسقط فى حساب روسيا، رغم نشاط آلة الدعاية الأورو-أطلسية ودخول المؤسسات الدولية على خط الإعلام والمنظمات الحقوقية والتظاهرات الشعبية، قد يبدو أن روسيا خسرت معركة الدعاية، لكنها خسارة مُحتملة إذا كان المقابل أن تكسب المواجهة نفسها! صحيحٌ أنه على الأرجح لن تطول مغامرتها فى أوكرانيا، لكن رسائلها وصلت كاملة، وآثارها التى ربما تبدو بسيطة الآن ستمتد وتتضاعف فى الزمان والمكان.. مأزق الناتو مستمر، وفرص بكين متزايدة، وروسيا مساحة كاشفة بين زمنين، ليس شرطا أن تكون حاسمة تماما فى أى منهما، لكنها نقطة حرجة تنتهى عندها جولة لتبدأ أخرى، بمنطق جديد تماما حتى لو كان الملعب واحدا وطريقة اللعب متطابقة. وخلاصة الأمر أن موسكو لم تُقدم على هذا التحرك إلا بعدما اختبرت الناتو سابقا، وبالتأكيد درست كل الاحتمالات، وحتى لو كانت لديها طموحات إمبراطورية مكتومة يمكن أن تواصل كتمانها لتكون ربحت متسعا إضافيا لتعزيز قدراتها والرهان على تناقضات الخصم؛ لا سيما أنها لن تكون الجولة الأخيرة بينهما، ولن يمر وقت طويل قبل أن تدخل الصين على الخط. ستفوز روسيا بمنطقة عازلة فى أسوأ الظروف، ومنطقتين أو ثلاثة فى أفضلها من تماس الناتو إلى دنيبر، ومنه إلى حدود الدونباس ثم الإقليم نفسه. وقد لا تحتاج التضحية بـ"زيلينسكى" أصلا - شخصا أو تيارا - لتلاعب خصمها الرابض على حدود أوكرانيا بدخان الحلم المجهض فى صدور الأوكران أنفسهم.










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة