فتحت الأديبة الكبيرة "سلوى بكر" قلبها فى حوار شامل مع "اليوم السابع"، امتد لعدد كبير من الموضوعات والقضايا شملت الثقافة والفن والتاريخ والأنثروبولوجيا وحتى السياسة ومستقبل مصر، وتحدثت بصدق وصراحة مثقف مهموم بالهم الهام، لتؤكد ـ مرارا ودون ملل ـ على أهمية التعليم كبوابة وحيدة لعبور مصر من أزماتها، وإلى نص الحوار:
ـ الأديبة الكبيرة سلوى بكر نبدأ بالسؤال التقليدى.. لمن تكتبين ولماذا؟
الحقيقة أن الكتابة بالنسبة لى استمتاع، ففى المقام الأول أنا أكتب لنفسى.. وثانيا أنا أحب أن أعصف بذهن القارئ، أرجو أن أنتج كتابة تثير التساؤل وتفتح آفاقا لم تكن مرئية.. أحب أن يتساءل القراء بسبب كتاباتى عمن يكونون.. يتساءلون عن ذواتهم والسياق السياسى والاجتماعى الذى يحيون فيه.. ببساطة.. يكون لدى حمل يجب أو أضعه عن كاهلى.. لدى ما أرغب فى قوله للآخرين.
ـ ما الروافد الفكرية والوجدانية التى صنعت سلوى بكر؟
الجوانب الفكرية والوجدانية أدين بها لعائلة أمى.. التى كانت عائلة مثقفة وعصرية.. ففى مكتبتها قرأت مبكرا النظرات والعبرات للمنفلوطى وكان عندى 12 سنة وماجدولين وتحت شجرة الزيزفون حتى وصلت إلى نجيب محفوظ.. فكانت القراءة طقسا والمناخ الثقافى مناخ استنارة وثقافة.
وأتذكر وأنا صغيرة أننا كنا على علاقة صداقة بمحمود غنيم الشاعر المدرسى وزينب المازنى أخت عبد القادر المازنى وكانت مكتبة المدرسة جزءا من حياتنا الدراسية وكان المسرح المدرسى فاعلا، كل هذه الأشياء دوافع حقيقية لمشروع مثقف مستقبلى.
حقيقى كانت هناك عدالة ثقافية تتيح للفقراء والأغنياء أن ينهلوا من معين المعرفة ويتأنسن الكائن البشرى، أى يتحول إلى إنسان من طبيعته البدائية البيولوجية .
ـ أنت تحبين القراءة فى الدراسات الأنثروبولوجية والتاريخ، فما حصيلة هذه القراءات فيما يتعلق بمستقبل المجتمع المصرى على ضوء خصائصه وماضيه؟
سأقول لك شيئا.. أى إجابة سأدلى بها لن تكون علمية لأنها غير قائمة على دراسة، هى مجرد تأملات وانطباعات.. ولكن يساعد في تكوين هذا الرأى الإجابة عن سؤال بخصوص طبيعة علاقتك بالمجتمع والناس.. أنا أحب الناس والمجتمع بكل عيوبة ونقاط ضعفه وسلبياته، ولكن لو تأملنا المصريين سنجد أن لديهم جينات حضارية عبقرية تحتاج من يستنهضها، وأنا أزعم ذلك لأننى أتيحت لى الفرصة للحياة فى بعض البلدان خارج مصر لبعض الوقت، فمثلا هناك أشياء تحدث فى مصر لا يمكن أن تحدث فى أى مكان آخر بالعالم.
مثلا عندما تنتهى خادمتك من تنظف المنزل مرهقة ويحين وقت إعطائها أجرها فتقول لك: "طيب ما تخلى بقى وأنا عملت حاجة".. هذه الجملة لو تتأملها جملة عميقة لا يمكن أن تسمعها فى أى مكان بالعالم، جملة تشف عن كياسة وذوق ورقى.. جملة تخفى تحتها طبقات من الحضارة الممتدة عبر آلاف السنين، وعلى ذلك فقس عشرات الأشياء.. فأنا فى رأيى أن المصريين فى حاجة إلى من يستنهضهم حضاريا دائما، لأن مفتاح مصر الهرم .. فى داخل كل إنسان مصرى هرم.
ـ فى داخل كل منا هرم؟
نعم.. لأن مصر دائما تحتاج إلى القبضة المركزية الحاكمة لأسباب جيوسياسية تتعلق بنهر النيل.. فالنيل يريد ضابطا من لحظة دخوله للحظة خروجه، وبالتالى كان لدينا الدولة المركزية دائما.. الدولة تنهض.. تنهض مصر.. تضعف.. تضعف مصر.. تسقط.. تسقط مصر ويحصل احتلال.. هذا ملخص تاريخ مصر.. نحن بحاجة إلى من يستنهض الروح الحضارية لدى المصريين.. وبالمناسبة.. فمصر من الممكن أن تقع وتنحدر لكنها تقوم بأسرع مما يمكن تصوره.
ـ بمناسبة هذه النقطة الاستشرافية المتفائلة، كيف ترين مستقبل الثقافة فى مصر، فى ظل اتساع رقعة مصادر المعرفة السطحية، التى كانت مقتصرة قديما على التليفزيون، وامتدت الآن لمواقع التواصل واليوتيوب و...
قاطعتنى قائلة..
مستقبل الثقافة فى مصر مرهون بالتعليم، المشكلة ليست فى الثقافة المشكلة أن التعليم هو الأساس الذى يمكن أن يخلق مواطن له علاقة بالثقافة والفنون والآداب أو مواطن ليس له علاقة بهذه الجوانب التى تحوله من كائن بيولوجى إلى إنسان، أكرر: فتش عن إشكاليات الثقافة فى التعليم .
هل تعلم أن الرعيل الأول من المدرسين هم من تخرجوا من الجامعات المصرية وكانوا مجايلين لمهدى علام وشوقى ضيف وبيكار، نعم.. هؤلاء جميعا كانوا مدرسى مدارس عادية.. ولم يكن هناك إلا المدارس العادية الحكومية التي هي مدارس وزارة المعارف العمومية.. وهنا أريد أن أشدد على أهمية التعليم فى استنهاض مصر.. مصر تنهض عندما تشكل النخب المثقفة بكل تلاوينها هيئات التدريس فى المؤسسة التعليمية لأن المثقف مكانه ليس وزارة الثقافة ولا الثقافة الجماهرية.. المثقف مكانه المؤسسة التعليمية.. ذلك لأنه يخلق البنية القادرة على الإبداع وطرح التساؤلات حول الحياة والذات وإلا فالمثقف معزول.
ـ هذا يعنى أنك لا ترين أى خطورة لمواقع التواصل على الكتاب الورقى ومصادر الثقافة الحقيقة والتقليدية؟
مرة أخرى.. الخطورة أساسها التعليم.. فأنا عندما أخلق مواطنا متعلما فهو قادر على الفرز، ومواقع التواصل الاجتماعى لا تعطى معرفة.. هى فقط تعطى معلومات، والمعرفة ماذا تعنى؟.. إنها تعنى القدرة على تحليل المعلومات وربطها ثم استنباط أو استنتاج ما يترتب عليها ما يعطى المواطن القدرة على الفهم والفرز.
ـ عملتِ لفترة طويلة فى مجال النقد السينمائى والمسرحى، كيف تنظرين إلى الأعمال السينمائية الأخيرة خاصة ما يثير منها الجدل والريبة، كأفلام الشذود والخيانة الزوجية والبلطجة؟
عملت في هذا المجال بالفعل فى صحافة بيروت وقبرص وعندى أرشيف، لأننى درست مسرح، والحقيقة أن هذه الأفلام عادة ما تكون سطحية وتفتعل معارك قيمية تؤدى لإنعاش ثورة مضادة يقودها الإرهاب.. الإرهاب الإخوانى والإرهاب السلفى، يكممون أفواه الناس ويقولون لهم: "لا تتكلمون فى أى شىء نحن نقف لكم بالمرصاد".. أما القيم السلبية التي تحملها هذه الأفلام فهى من ورق، وبلا قيمة، فالشذوذ موجود داخل أى مجتمع لكنه ليس هاجسا ولا يشكل ظاهرة تستحق "فيلما"، وكذلك كل القيم السلبية الأخرى، الحقيقة أن هذه الأفلام ليس ذات موضوع، ونحن نعطيها قيمة عندما ندير حولها شجارا، هذه ليست قضايانا، إنها قضايا مستوردة، وأفكار غربية مسروقة.
ـ بمناسبة الأفكار المسروقة، وكونك معنية بالتاريخ والدراسات الأنثروبولوجية ما تعليقك على محاولات سرقة تراث المصريين، من قبل زنوج أمريكا ـ وعدد من الجنسيات الأخرى ـ بنسبة أنفسهم لمصر القديمة، والأخطر خلعنا نحن عن وطننا وتصورينا على أننا شعب دخيل على مصر.
كل هذه المشروعات هى مشروعات سياسية بالأساس، ليست علمية ولا موضوعية.. وفتش عن المستفيد.. طول ما فيه دولة بجوارك اسمها إسرائيل.. وهى بالمناسبة خلقت من أجل مصر فقط.. أعنى حتى لا تنهض مصر.. فعقدة إسرائيل والغرب هى مصر.. وبالتالى كل المشروعات ذات الطابع الثقافى والتاريخانى هى مشروعات صهيونية.
وأنا كنت فى سويسرا فى بيرن، وقابلت مجموعة من الغجر يقولون إنهم مصريون.. وغجر شرق أوروبا يطالبون بالجنسية المصرية ويطلبون منى التوسط لدى الحكومة المصرية للحصول عليها، وهذا الكلام سهل دحضه، ومثلا فى سقارة وجدوا كمية عرب مدفونين.. لأن هؤلاء هم التجار الذين كانوا يوردون لمصر صمغ وبخور المعابد والتحنيط وأيضا العطور التي كانت تستخدم للتطهير، وصحيح أن التدخلات الثقافية فى المنطقة معقدة جدا، إلا أنه بالإمكان دحض مثل هذه الادعاءات بواسطة أمرين: الأول علم الآثار والثانى علم اللغات القديمة المقارن، وليس معنى وجود عرب مدفونين في مصر أن المصريين القدماء كانوا عربا.
- بمناسبة العلوم الأنثروبولوجية.. هل ترين أن الآداب المصرية متمايزة عن الأدب العربى والإقليمى أم أن وحدة اللغة وأساليب أو تقنيات السرد تقلل من أى فوارق.. أقصد أن المجتمع المصرية متعدد ومنفتح وبالتبعية سيعبر أدبه عن ذلك، بينما قد تعبر آداب الآخرين عن بيئة مغلقة، وقد قرر لطفى الخلوى بأن الأدب المصرى مستقل.
الحقيقة أن هذه نظرة شيفونية.. ليس هناك ما يسمى بأدب متميز لأسباب غير فنية.. هناك أدب ذو قيمة يعبر عن لحظة إنسانية وأدب ليس كذلك، و"المحلية" في الأدب قد تكون سر عبقريته، كأدب أمريكا اللاتينية، الذى ننبهر به لأنه قدم عوالم وتجارب إنسانية عبّرت عن هذا المكان الذى لا تعرف عنه شيئا.
والأدب العربى الآن فى مصر والعالم العربى يقدم أعمالا مدهشة وعالية جدا، ويشكل أدبا عالميا، الفيصل هو مدى مصداقية التجربة الإنسانية المطروحة فى النص الأدبى.
يذكر أن سلوى بكر ولدت فى القاهرة عام 1949. وكان والدها يعمل في السكك الحديد. ونشأت في عائلة والدتها ثم حصلت على بكالوريوس التجارة عام 1972. لتعود وتدرس النقد المسرحي 1976، وبدأت إنتاجها الأدبي في العام 1979، ولها عدد كبيرا من الروايات والأعمال القصصية، كانت كالتالى: حكاية بسيطة 1979، مقام عطية 1984، زينات في جنازة الرئيس، 1986، العربة الذهبية لا تصعد إلى السماء (رواية) 1991، عجين الفلاحة 1992، وصف البلبل 1993، أرانب، وقصص أخرى 1994، إيقاعات متعاكسة 1996، البشموري 1998. نونة الشعنونة (رواية) 1999. حلم السنين (مسرحية): الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002. سواقي الوقت (رواية) 2003. شعور الأسلاف (مجموعة قصصية) 2003، كوكو سودان كباشي (رواية) 2004. أدماتيوس الألماسي (رواية) 2006. من خبر الهناء والشفاء (مجموعة قصصية) 2006. الصفصاف والآس (رواية) 2010. وردة أصبهان (مجموعة قصصية) 2010. وأخيرا رواية "فيلة سوادء بأحذية بيضاء" التي شاركت بها الديبة في معرض الكتاب هذا العام.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة