فى رحاب مدينة أجا بمحافظة الدقهلية، جمالا ساحرا يخطف الأنظار، أصوات صاخبة ترنوا بمعزوفتها فى الأرجاء، ترتب وقع خطواتها بتناغم وانسجام، أعواد طويلة من سعف النخيل تتراص جنبا إلى جنب بانتظام على جدران المنازل وبجانبها أكوام من الأقفاص وأطقم الحدائق والمقاهى والمنتزهات المعدة للبيع، ابتسامات صافية ونفوس راضية، همة ونشاط وبساطة وحب وسواعد فتية لا تعرف التعب والكسل، أطفال وشباب وكبار ترتسم وجوههم بالفخر والعزة، يسعون وراء الرزق ولقمة العيش بإخلاص وتفان، تغمرهم السعادة وهم يتسابقون يقلمون أعواد "الجريد" بأناملهم الساحرة.
تاريخ حى تعود جذوره لمئات السنين، يعيدك للزمن الجميل بكل ما فيه من تاريخ وأصالة وتراث عريق لأناس أفنوا حياتهم يصنعون بأناملهم الذهبية تحفا فنية من جريد النخيل، فى قلب ساحة كبيرة مقسمة لعشش يمكث كل أب مع أبنائه يتقاسمون سعادة الكفاح والشقاء وهم يصنعون سويا الأقفاص والكراسى والطاولات من سعف النخيل بدقة ومهارة فائقتين، إذ اتخذ أبناء سعد سلامة من صناعة جريد النخيل أسلوب حياة، بالكفاح والعمل فى حرفة يدوية عريقة ينتجون منها أعمال غاية فى الدقة والإتقان كأقفاص حفظ الخضروات والفاكهة والكراسى والطاولات والأسرة، ونقلوها لأبنائهم وأحفادهم، ليحافظوا على المهنة من الاندثار، بعد ظهور البلاستيك والتطور فى صناعة الأثاث من الأخشاب والمواد الحديثة.
وبداخل ساحة فضاء مقسمة لثلاثة عشش على أطراف مدينة أجا، يبدأ أبناء سعد سلامة الأربعة وأحفاده يومهم منذ ساعات الصباح الباكر، بإرادة وعزيمة من حديد معتمدين على رأس مالهم من أدوات حادة كالسكاكين والشقارف، يتقاسمون الأعمال فيما بينهم ومراحل تقطيع جريد النخيل وتسويته وتقليمه وتركيبه مع بعضه البعض بشكل مرتب ومنسق ليخرج القفص فى شكله النهائي.
وعن احتفاظهم بحرفتهم اليدوية الأصيلة حتى وقتنا هذا، قال عادل سعد صاحب الـ43 عاما، الابن الأصغر لرائد صناعة جريد النخيل فى محافظة الدقهلية لـ"اليوم السابع"، إنهم ورثوا المهنة أبا عن جد، عمل وأخواته بالمهنة منذ نعومة أظافرهم، حيث ولدوا وجدوا والدهم وأجدادهم يمتهنون صناعة جريد النخيل ويصنعون ببراعة الأقفاص والأسرة والسدد، فعكفوا على مراقبتهم وهم يتفننون فى صناعتها، وكانوا يعملون مع والدهم وأجدادهم عند عودتهم من المدرسة حتى عشقوا المهنة وتعلموا أصولها وأسرارها واحترفوها فى مصر ودولة ليبيا التى عملوا فيها لفترة طويلة يصنعون الأقفاص والأثاث من الجريد، وأكملوا مسيرة أجدادهم وأصروا على تعليم أبنائهم المهنة ليكملوا المسيرة من بعدهم، مؤكدا على أنهم يفتخرون ويعتزون بمهنتهم التى توفر لهم قوتهم وقوت أبنائهم.
واستطرد أن مهنة "القفاصة"، وصناعة جريد النخيل، بالنسبة لهم إرث وكنز ثمين يورث للأجيال جيل بعد جيل، ويعتمدون عليها كمصدر دخل أساسى لهم، موضحا أنهم اهتموا بمواصلة أبنائهم لتعليمهم ودراستهم بجانب تعليمهم لأصول صناعة الجريد، فينشؤون على حب مهنة أبائهم وأجدادهم، ويتعلمونها منذ طفولتهم وعمرهم لا يتجاوز الثلاث سنوات حتى يكتسبون الخبرة والمهارة ويحترفوها ويمتهنوها مهما كانت ميولهم ورغباتهم، موضحا أن حب وعشق المهنة يولد منذ الطفولة من لحظة لهو الطفل بجانب والده وهو يقطع الجريد ويصنع الأقفاص، حيث أن التعلم يبدأ بالمراقبة والملاحظة والفضول للفهم والتعلم، ومع مرور تطور الطفل ونموه يبدأ فضوله ورغبته فى التعلم يزداد يوما بعد يوم، وفى تلك اللحظات يبدأ الأب بتعليمه خطوات العمل بالمشاهدة والمطالعة، وعند بلوغه العشر سنوات يبدأ الطفل يخطو أول خطواته عمليا فى صناعة الجريد، ومع الممارسة التجربة لأكثر من مرة يحترف الصناعة بكل مراحلها ويصبح قادرا على صناعة جميع منتجات الجريد بمفرده.
وتابع أنهم يمكثون مع أبنائهم لساعات طويلة فى ساحة عملهم بمدينة أجا، يتقاسمون أعمال الصناعة فيما بينهم منذ ساعات الصباح الباكر حتى يصنعون أثاث جريد النخيل التى تمر بمراحل عدة، تبدأ بعزل الخوص عن الجريد باستخدام أداة المنجل، ثم تقطيع الجريد وشقه لقطع صغيرة وتقسيمه إلى رقائق باستخدام الساطور، ثم دقه لصنع فتحات صغيرة به باستخدام الشاكوش الخشبي، ومن ثم تشكيل الأقفاص والكراسى وغيرها من الأعمال باستخدام أعواد الجريد، مشيرا إلى أن تلك الحرفة تعد من أصعب الحرف اليدوية كونها تحتاج للعلم والخبرة والمهارة والتركيز والدقة، ولقوة عضلية كبيرة وصبر وقدرة على التحمل للعمل لساعات طويلة لإخراج وإنتاج المنتجات المطلوبة من الجريد بجودة عالية ودقة وشكل جمالى جذاب.
وقال إن صناعتهم تعتمد على سعف النخيل "الجريد" الذى يقومون بشرائه من أصحاب مزارع النخيل من محافظة دمياط،، والذى تتعدد أنواعه بين البلدي، والحياني، والصعيدى، والسمان، والزغلول، تستخدم جميعها فى صناعة المنتجات، ولكن الجريد البلدى والحيانى يعدان أبرز وأفضل أنواع الجريد التى تستخدم فى صناعة الأقفاص والأسرة لصلابتهما وقوة تحملهما لسنوات طويلة، وإلى جانب الجريد فيعتمدون على العديد من الأدوات الحادة التى تستخدم كلا منها فى مرحلة معينة من الصناعة، مشيرا إلى أنهم يعتمدون على السكاكين والشقارف والمنجل فى تقطيع الجريد لثلاثة أجزاء من مخ وتونى وطوالى "الأطراف"، وأداتى الشاكوش واللقط والمسمار فى ثقب قطع وأعواد الجريد، مشيرا إلى أن المجهود البدنى والعضلى الذى يبذل من جميع الصناع والعاملين فى المجال هو الذى يعينهم على تنفيذ الأشكال المطلوبة من كراسى وطاولات وأسرة ومقاعد كبيرة، حيث ينتجون يوميا أكثر من عشرين قفصا.
وأشار إلى أن مهنتهم حرفة تاريخية قديمة كانت تنتشر فى مختلف قرى ونجوع عدة محافظات وخاصة الفيوم والصعيد، وكان يعمل فيها عدد كبير جدا من محبيها وصناعها، ولكن مع مرور الزمن وتطور الحياة وظهور البلاستيك والصناعات الحديثة والأثاث المصنوع من الأخشاب، اندثرت المهنة وانخفض دخلها ومكسبها وانخفض الإقبال عليها وقل عدد العاملين والأيدى العاملة بها بسبب ضعف اليوميات، حيث عزفوا عنها لصعوبتها ومجهودها الكبير وبحثوا عن مهن أخرى توفر لهم أرباحا أكبر وتعينهم على أعباء الحياء، موضحا أن مكسبهم اليوم يعتمد فقط على بيع أقفاص الخضر والفاكهة التى لا تزال تستخدم بكثرة فى الأسواق وشوادر الخضر والفاكهة، ويقومون بصناعة أطقم الكافيهات والمحلات والبازارات والفنادق السياحية من كراسى وطاولات بكل الأشكال والمقاسات وفقا للحاجة والطلب، مؤكدا على أن صناعة الجريد حياتهم وانتمائهم ومصدر فخرهم، وسيواصلون عملهم فى المهنة بكل عزيمة وإصرار لآخر نفس، رغم متاعبها ومصاعبها وما تواجهه من مخاطر تهدد بقائها.
أحد صناع أقفاص جريد النخيل
أقفاص جريد النخيل
تقطيع أعواد جريد النخيل
جريد النخيل
صناع جريد النخيل في محافظة الدقهلية
صناع منتجات جريد النخيل بمحافظة الدقهلية
صناعة جريد النخيل في محافظة الدقهلية
صناعة جريد النخيل_1
طفل يتعلم مراحل صناعة أقفاص جريد النخيل
مهنة صناعة جريد النخيل
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة