انطلاقًا من دور الجهاز القومى للتنسيق الحضارى فى العمل على إحياء الذاكرة القومية والتاريخية للمجتمع المصرى، انطلقت فكرة مشروع "حكاية شارع"، الذى يهدف إلى التعريف بالشخصيات الهامة التى أطلقت أسماؤها على بعض الشوارع، وذلك من خلال وضع لافتات باسم وتاريخ الأعلام الذين أطلقت أسمائهم على الشوارع، والذين يشكلون قيمة تاريخية وقومية ومجتمعية لمختلف فئات الشعب المصرى، ولهذا نستعرض يوميًا شخصية من الشخصيات التى لهم شوارع تحمل أسمائهم، حسب ما جاء فى حكاية شارع للتنسيق الحضارى، واليوم نستعرض شخصية "ميريت باشا" والذى لها شارع يحمل اسمه بالقاهرة.
ميريت باشا هو "فرانسوا أوجست فردينان مارييت"، ولد فى بولونى سور مير بفرنسا فى 11 فبراير 1821م، وقد نشأ مارييت محبًا للأسفار والاكتشاف منذ نعومة أظافره/ ولم يلبث طويلاً حتى سلك طريق العمل لمساعدة عائلته قبل أن يكمل دراسته، فعين سنة 1839م معلمًا للرسم واللغة الفرنسية فى مدرسة أسترافورد بإنجلترا، فنمت فيه موهبة الرسم العملي، ولكن حبه للعلم تغلب عليه، فعاد إلى بولون للحصول على درجة البكالوريا.
وكان الرحالة المسيو دينتون، رفيق حملة بونابرت على مصر، قد أهدى إلى متحف بولون سنة 1847م تابوتًا مصريًا فيه مومياء. وقد تصادف أن رأى مارييت ما على التابوت من الكتابة المصرية القديمة، فتاقت نفسه إلى حل رموزها، واستعان بكتابين لشامبليون، وظل يتردد على المتحف ليقضى أوقاته بين الآثار المصرية، حتى تمكن من اللغة المصرية القديمة، ثم سافر إلى باريس وانقطع إلى متحف اللوفر لقراءة ما فيه من الآثار المصرية، ثم تولى منصب صغير فى المتحف، تمكن من خلاله التبحر فى اللغة الهيروغليفية، وألف كتابًا فى اللغة القبطية.
مارييت والآثار المصرية
أرادت فرنسا أن ترسل من يبحث فى مكتبات الأديرة المصرية عن الكتابات القبطية القديمة، أملاً فى معرفة حقائق جديدة تتعلق بتاريخ اليونان، وكان مارييت قد اشتهر بينهم بمعرفة اللغة القبطية، فأسندوا إليه هذه المهمة، وجاء إلى القاهرة فى عام 1850م.
إلا أنه عندما وصل إلى القاهرة وشاهد أهرامات الجيزة وسقارة، تاقت نفسه إلى زيارتها، ونسى ما جاء من أجله، وتحول عقله إلى الآثار، فاكتشف كثيرًا منها وخاصة فى سقارة، وهى "مقابر العجل أبيس- السيرابيوم"، وهى مدافن بديعة الصنع منقورة فى الصخر، وبجانب السيرابيوم اكتشف مقبرة "تي"، الذى كان أحد رجال البلاط الملكي، وقد وجد الكثير من الآثار المصرية فى تلك المنطقة، أرسل بعضها إلى فرنسا، فطلبت منه إرسال المزيد، ونسيت أمر المخطوطات القبطية.
وبناء عليه واصل مارييت عمله فى الكشف عن الآثار المصرية، فاكتشف من التماثيل والتحف الكثير، فذهب إلى أبى الهول ينقب ويبحث حوله، وأشرف على إزالة الرمال من حوله، فعثر على آثار كثيرة، ثم انتقل إلى الصعيد واكتشف الكثير من آثارها.
إنشائه أول متحف مصرى "متحف بولاق"
عندما توفى "عباس باشا الأول"، كان بينه “فرديناند ديليسبس”، الذى كان يتمتع بنفوذ واسع وشهرة عظيمة، فطلب منه تقديمه إلى الوالى "محمد سعيد باشا" والى مصر آنذاك ومساعدته فى إنشاء دار للآثار، وبالفعل تمت المقابلة وشرح مارييت لسعيد باشا كيف تنهب آثار مصر مدللاً على صدق كلامه بأنه أمضى أربع سنوات بين الفلاحين رأى خلالها ما لا يصدقه عقل من اختفاء 700 مقبرة من منطقتى أبو صير وسقارة، وأخذ يعدد له فوائد إنشاء دار للآثار تكون مهمتها الأولى تنظيم عمليات التنقيب وعرض الآثار المصرية التى أصبحت مرتعًا لكل يد تمتد إليها خاصة أن المنقبون أصبح شغلهم الشاغل هو جنى المال وبيع ما يعثرون عليه من آثار لنبلاء أوروبا ليزينوا به قصورهم ومتاحفهم.
فأوكل إليه سعيد باشا مهمة الحفاظ على الآثار المصرية، وعَينه مديرًا لمصلحة الآثار المصرية. ومن هنا انطلق مارييت فى عمله فى مجال التنقيب المنظم، وأسس أول متحف للآثار فى مصر، والذى عُرف بإسم "متحف بولاق"، وفى 18 أكتوبر 1863م تم افتتاح المتحف فى حفل رسمى بهيج اجتمع فيه كبار رجال الدولة.
أما فى باريس فقد كان القائمون على متحف اللوفر متذمرين من غياب مارييت الذى لا يزال معينًّا بالمتحف وأفضى الأمر برؤسائه إلى مطالبته بالاختيار بين فرنسا ومصر، وكان مارييت ممزقًا بين البلدين ولكنه اختار مصر.
وفى عام 1787م، زاد فيضان النيل وغمرت المياه مبنى متحف بولاق، وأتلفت الكثير من معروضاته وفُقد الأكثر، وعندما انحسرت المياه عن المبنى أخذ مارييت فى التنقيب من جديد عن معروضاته، ولكن هذه المرة تحت ركاد الطمى الذى خلفه الفيضان وراءه، وأخذ يعيد ترتيب ما عثر عليه ووضع ما تبقى فى صناديق، وحزن كثيرًا لفقدان الكثير من القطع وتَهشُّم الرقيق منها، ولجأ إلى الخديو إسماعيل طالبًا العون للحفاظ على ما تبقى من معروضات، خاصة بعد أن أصبح موقع المتحف غير آمن بالمرة من ناحية الفيضان، ومن ناحية أخرى أن المبنى أصبح متهالكًا ولا يليق بكونه متحفًا لأعظم حضارة عرفتها الإنسانية، وكل ما فعله الخديو هو إعطاء مارييت عربخانة أمام مبنى المتحف ليزود بها متحفه.
ولم يعترض مارييت وبدأ العمل من جديد فى ترتيب المعروضات وتنظيفها من الطمى لتصلح للعرض، وتم افتتاح المتحف من جديد فى عام 1881م.
مؤلفاته
كتب مارييت الكثير من المؤلفات باللغة الفرنسية، يزيد عددها على 63 مؤلفًا، منها: "سرابيوم منف، جدول سقارة، زيارة متحف بولاق، وصف هيكل دندرة الكبير، وصف هيكل الكرنك وتاريخه".
وفاة مارييت
لم يلبث أن توفى مارييت فى نفس العام الذى أعاد فيه افتتاح المتحف عام 1881م، وقد خلفه من بعده "ماسبيرو" ليواصل حلم مارييت بنقل المتحف وتوسعته، فتم نقل المتحف فى عام 1891م إلى سراى الجيزة، واستمر بها إلى أن تم نقله للمرة الثالثة عام 1902م إلى موقعه القابع بميدان التحرير.
أما مارييت فقد أقيمت له جنازة رائعة وأقيم قبره فى حديقة متحفه أمام تمثال خفرع، لقد صَمَّم تابوته الحجرى المهندس المعمارى أمبرواز بودرى وكانوا ينقلون قبره إلى كل مكان جديد يُنقل إليه المتحف ففى عام 1891م نُقل مع المتحف إلى سراى الجيزة، وفى عام 1902م نقل إلى المتحف المصرى الحالى، حيث لايزال قائمًا إلى الآن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة