حالة من الانسجام اتسمت بها السياسات المصرية في السنوات الأخيرة بين الداخل والخارج، ربما بصورة غير مسبوقة، فأصبحت التوجهات الدولية، ليست فقط مجرد انعكاس للمصالح، وإنما تمثل امتدادا لها، وهو ما يبدو في النهج الذى أدارت به الدبلوماسية المصرية، علاقاتها الدولية، جنبا إلى جنب مع سياسات الداخل، في إطار يحمل في طياته تناغما، بعيدا عن التعارض، الذي يبدو في أحيان كثيرة عند تقييم الخطاب الذي تتبناه بعض الدول، ومن بينها القوى الدولية الكبرى، والذي يجد تعارضا صارخا مع أدواتها، وربما سياساتها في الداخل، على غرار شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي طالما تشدق بها الغرب لسنوات، باعتبارها نهجا سياسيا داخليا، وسعوا إلى تعميمه، في مختلف مناطق العالم، بصرف النظر عن الظروف التي تحكم كل منطقة أو دولة، ومدى تقبلها للنماذج المعلبة التي تقدمها تلك الدول، في الوقت الذي اتجهوا فيه إلى أدوات قمعية لفرض رؤيتهم، والتي وصلت إلى حد الغزو، واستخدام القوة العسكرية لتحقيقها في بعض الأحيان.
فلو نظرنا إلى أولويات الإدارة المصرية، في عهد "الجمهورية الجديدة"، نجد أن ثمة اهتمام كبير بتحقيق الإصلاح الشامل، في مختلف المناحي، سواء المرتبطة بالداخل المصري، أو العلاقات مع المحيطين الدولي والإقليمي، وهو ما يبدو في التوجه نحو سياسات الإصلاح الاقتصادي، والتي قامت على اعتبار المواطن شريكا رئيسيا للدولة، في تحمل المسؤولية، في الوقت الذي اتجهت فيه الدبلوماسية، نحو تعديل مساراتها، عبر تحويل العلاقة مع الحلفاء، من القوى الدولية الكبرى، من سياسة "الاعتماد" المطلق، على الدعم القادم منهم، سواء سياسيا أو اقتصاديا، إلى نهج جديد يقوم على "الشراكة"، وهو ما يتجلى بوضوح في العديد من التحركات، أبرزها تنويع التحالفات، وعدم اقتصارها على القوى الكبرى، والتمدد نحو الدول الأصغر نسبيا، فيما سبق وأن أسميته "النقاط الميتة" في الدوائر الدبلوماسية المصرية، على غرار التحالف مع اليونان وقبرص، وكذلك الامتداد في دول القارة الإفريقية، عبر تجاوز دائرة حوض النيل التقليدية، والتوغل إلى دول أخرى، يمكن التعاون معها، على أساس من الشراكة لتحقيق المصالح المشتركة.
ولكن بعيدا عن الإطار الرسمي للسياسات المصرية، والذي يتمثل في القرارات والتوجهات التي تتخذها الدولة على المستوى الرسمي، ربما نجد أن حالة الانسجام تمتد إلى أبعاد أخرى، لا تقل أهمية، على غرار الاعتماد على "القوة الناعمة"، في إدارة جزء كبير من الملفات سواء في الداخل أو الخارج، عبر العديد من الأدوات، منها المؤسسات الدينية، التي تلعب دورا مهما، في إطار تشكيل الوعي لدى قطاعات كبيرة من المجتمع في الداخل، بينما تبقى أحد مراكز الدبلوماسية "الناعمة"، في ظل ما تحظى به من احترام من قبل شعوب العالم.
إلا أن الجمهورية الجديدة نجحت باقتدار في استكشاف أبعاد جديدة لقوتها الناعمة، منها الشباب المصري، عبر الحوار معهم وتأهيلهم للقيادة، ليصبحوا نواة لـ"منتدى شباب العالم"، والذى بات أحد أهم الدعائم الي اعتمدتها الدبلوماسية المصرية لتقديم رؤيتها للعالم، فيما يتعلق بمختلف القضايا والتحديات الراهنة التي يشهدها العالم، رغم صعوبتها وتعقيداتها، ليصبح انعقاده بمثابة حدثا عالميا استثنائيا، يمكن البناء عليه في المستقبل، ناهيك عن كونه فرصة لحوار يتجاوز البعد الرسمي، بين الدولة ومحيطيها الإقليمي والدولي.
الدراما التلفزيونية كذلك باتت تمثل أحد أهم أبعاد القوى الناعمة، التي يمكن الاعتماد عليها في مخاطبة المصريين في الداخل، واطلاعهم، عبر الأعمال الهادفة والتوثيقية، على المخاطر المحدقة بهم، وكذلك لتوثيق العديد من البطولات التي لم يعلم عنها الكثير من الناس، التي سطرتها أجهزة الدولة، في مرحلة الفوضى، التي كادت أن تأكل الأخضر واليابس، بينما تمثل في الوقت نفسه رسائل مهم للعالم، تفيد بقوة الدولة المصرية وأجهزتها وقدرتها على التصدي للمخاطر، والتهديدات، وهو الأمر الذي يمثل أهمية كبيرة في المرحلة الراهنة، خاصة بعدما أدرك العالم حقيقة مفادها أن مصر تعد أحد أهم مراكز العالم، وبدونها لن يتحقق الاستقرار، وهو ما يبدو في استلهام التجربة المصرية بالعديد من الدول حول العالم، خاصة فيما يتعلق بدحض الإرهاب.
وهنا يمكننا القول بأن نجاح "الجمهورية الجديدة"، لا يقتصر على قدرتها على تحقيق المصالح المصرية، عبر سياسات تابعة، من شأنها استرضاء قوى معينة، حتى وإن تعارضت مع مبادئها، وإنما يمتد إلى نجاحها المنقطع النظير في تحقيق الانسجام بين الداخل والخارج، في الوقت الذى اعتمدت فيها أدوات "القوة الناعمة" باعتبارها، لتكون منطلقا لها نحو دور أكبر على كافة المستويات، مما ساهم في إضفاء "المصداقية" على تحركاتها سواء في الداخل والخارج، لتحظى بتأييد كبير، فيما يتعلق بدورها في كافة القضايا والتحديات الراهنة.