داخل أحد أزقة قرية المعصرة التابعة لمدينة بلقاس بمحافظة الدقهلية، تجلس "حب" السيدة الخمسينية وأبناؤها الثلاثة فى زاوية من منزل لا يزال على حاله منذ سنين خلت، يمسكون بأناملهم الساحرة قطعا خشبية دائرية، ينسجون بداخلها أسلاك معدنية وقطع قماش حريرية، يقبضون بفمهم على مجموعة من المسامير، يسابقون الزمن بالكفاح والعمل دون كلل أو ملل، يتأملون بدأب دون أن تغفو أعينهم ما صنعته أيديهم الملتحفة بالشقاء من عشرات الغرابيل، هى أسرة فريدة تعود بك إلى ذكريات الماضي، وكأنها لوحة تراثية منسية تحمل تاريخ الزمن الجميل.
لا تفارق الابتسامة محياها، وهى تصنع المناخل والغرابيل، تستأنس بمجالسة أبنائها وأحفادها وهم يحلقون حولها، يراقبونها بشغف وهى تدير بيديها إطارا خشبيا، تشد عليه قطعة دائرية من السلك ويسابقها أبناؤها بإطارات أخرى مشدود عليها قطع من الحرير، يمارسون حرفة آبائهم وأجدادهم بعد أن عملوا فيها ببراعة واحتراف ودقة على مدار 200 عاما، والتى كانت ولا تزال حرفة يدوية أصيلة حفرت تاريخهم وحفظت مستقبلهم ومستقبل أبنائهم.
وفيما هى منشغلة فى حياكة ما ستبيعه مع أبنائها من مناخل وغرابيل فى سوق الصباح التالي، ويتعالى صوتها بضحكات فضفاضة، قالت "حب" لـ"اليوم السابع"، "إنها عملت فى مهنة صناعة المناخل والغرابيل منذ أن كانت فى الـ12 من عمرها، حيث احترفت الحرفة بمساعدة وتعليم زوجها لها رائد صناعة المناخل والغرابيل فى محافظة الدقهلية، وظلت تعمل فى صناعة وتشكيل الغرابيل وتجوب الأسواق معه لسنوات طويلة؛ لتبيع ما صنعته معه من منتجات مختلفة الشكل والحجم، مشيرة إلى أن سبب تعلمها واحترافها للمهنة هو عشقها للحرفة ورغبتها فى مساعدة ومساندة زوجها فى مهنته الصعبة، حيث كانت تجوب معه أسواق قرى المحافظة منذ ساعات الصباح الباكر وعند عودتهم فى المساء تبدأ فى صناعة منتجات اليوم التالي، وبعد وفاته حافظت مع أبنائها على حرفة زوجها واسمه وتاريخه فى المهنة، وظلت تجوب معهم مختلف الأسواق يوميا لبيع منتجاتهم من المناخل والغرابيل.
وتابعت أنها وأبنائها الثلاثة حافظوا على مهنة آبائهم وأجدادهم من الاندثار، حيث يعملون ليل نهار، يتقاسمون مراحل التصنيع فيما بينهم بين تحضير الأقواس الخشبية الحاضنة للشبك المعدنى أو قماش الحرير أو الشاش، وتثبيت وشد الأسلاك عليها أو قماش الحرير بالخيوط والمسامير، وقص الأطراف الزائدة وتغطيتها بشريط بلاستيكى محكم، موضحة أن صناعة المناخل والغرابيل ليست بالسهلة، بل هى حرفة يدوية دقيقة تحتاج للمهارة العالية والدقة فى طى وغلق القوس الخشبى وإحكام وشده جيدا يدويا باستخدام المسامير، وخبرة صناعة الغرابيل والمناخل بكافة أشكالها وأنواعها وأحجامها، حيث أن لكل نوع منهم طبيعة وأسلوب محدد فى الصناعة، فيختلف الغربال وفقا لنوع الحب المستخدم فى التنقية، وحجمه ومقاس فتحاته ونوع المادة المصنوع منها.
وأضافت أن للغرابيل أنواع عديدة، فهناك الغربال المصنوع من جلود الجمال والمواشي، والذى يعد أقدم وأعرق وأجود أنواع الغرابيل، وبداية استخدامه، وتطور مع مرور السنين، حتى ظهر الغربال المصنوع من الحرير والخيش والسلك، حيث تتعدد استخدامات الغربال المصنوع من الحرير وفقا لحجم فتحاته، فيستخدم الغربال المانع ذى الفتحات الضيقة جدا فى نخل الدقيق حتى يكون خالى تماما من الردة وأية شوائب، أما الغربال ذى الفتحات المتوسطة فيستخدم للسماح باختلاط القليل من الردة مع الدقيق، أما الغربال ذى الفتحات الواسعة فيستخدم لنزول الردة بشكل كامل مع الدقيق المنخول، أما الغربال المصنوع من السلك فيستخدم فى نخل مختلف أنواع الغلة وفقا لحجم فتحاته، فإذا كانت فتحاته ضيقة يستخدم فى نخل القمح والشعير، وإذا كانت فتحاته واسعة فيستخدم فى نخل الرمال والزلط، بينما المنخل فيصنع من الشاش، مشيرة إلى أن الإقبال على شراء المناخل والغرابيل طوال العام، ويزداد فى موسم حصاد القمح والأرز وفصل الصيف، حيث تقبل العرائس فى القرى الريفية على شرائها كشيء أساسى فى متعلقات جهازها.
وبابتسامة فخر ورضا، أكمل سامح عجور صاحب الـ28 عاما حديث والدته قائلا: "إنه احترف صناعة المناخل والغرابيل بكل أنواعهم منذ طفولته، حيث ولد ووجد والده وأجداده يمتهنون الحرفة ويبدعون فى صناعتها، ويرتحلون من قرية لأخرى لبيع ما يصنعونه من منتجات مختلفة الشكل والحجم، مشيرا إلى أنه عشق المهنة وأحبها وأصر على تعلمها من والده ليحافظ على تاريخ أسرته فى حرفة يدوية أصيلة أوشكت على الاندثار بعد عزوف الكثير عنها لانخفاض أرباحها وضعف الإقبال عليها، مضيفا: "دى مهنتنا ومهنة أجدادنا، ورثناها أبا عن جد، وهنورثها لأولادنا".
وتابع أن صناعة المناخل والغرابيل من الصناعات الهامة التى تستفيد منها جميع الفئات، حيث تستخدمها السيدات فى نخل القمح والأرز والدقيق والأعشاب وجميع أنواع البقوليات، ويستخدمها عمال البناء فى نخل الرمل والزلط والأسمنت، ويستخدمها المزارع والفلاح فى نخل الغلة، وتعتمد عليها المقلة فى نخل اللب والسودانى والحمص، مضيفا أنهم يعتمدون فى صناعتهم على عدد من الأدوات والخامات البسيطة وأهمها المسامير والمطرقة والكماشة والمقص والإطارات الخشبية القادمة من محافظة المنوفية، والأسلاك وأقمشة الحرير والعياشي، والبلاستيك، موضحا أن مراحل تصنيع الغربال تبدأ بضم وثنى الإطار الخشبى وتوسعته بشكل محكم باستخدام المسامير الصغيرة وفقا لحجم الغربال المطلوب صناعته، ثم تثبيت السلك أو قماش الحرير بداخله بالمطرقة والمسامير، ومن ثم شد وتثبيت الحرير عليه باستخدام الإبرة والخيط، وبعدها يتم وضع شريط لاصق من البلاستيك بشكل دائرى على المسامير وخيوط التثبيت لإخفائهما.
وأشار محمد عجور صاحب الـ32 عاما، إلى أنهم نجحوا فى تطوير مهنتهم والحفاظ عليها فى ظل ما تواجهه من مخاطر تهدد بقائها خاصة بعد ظهور وسيطرت المنتجات الصينية على الأسواق، حيث وصلت منتجاتهم من المناخل والغرابيل لجميع المحافظات، مؤكدا على أن بالرغم من سيطرت المنتجات الصينية على الأسواق إلا أن الغربال والمنخل البلدى لن ينقرضان فى ظل هشاشة وضعف المنتجات الصينية، مشيرا إلى أن الغربال البلدى يعيش لسنوات طويلة إذا كان مصنوعا بجودة عالية ومشدودا بقوة، فإذا تمزق قماشه يمكن إعادة تدويره وتصليحه بسهولة عن طريق تغيير السلك أو القماش بداخله، أما المصفاة الصينية فبالرغم من جمال شكلها إلا أن عمرها قصير وينتهى بمجرد أن تصدأ وليست بمتانة وجودة الغرابيل والمناخل البلدى المصنوعة يدويا، وسعرها مرتفع مقارنة بأسعار الغرابيل البلدى التى تبدأ أسعارها من 15 جنيها.
أسرة-متخصصة-في-صناعة-المناخل-والغرابيل
أسرة-متخصصة-في-صناعة-المناخل-والغرابيل-في-الدقهلية
أقدم-صانعة-مناخل-وغرابيل-في-مدينة-بلقاس
حب-صانعة-المناخل-والغرابيل
حب-وأبناؤها
صانعة-المناخل-والغرابيل
صناعة-المناخل-والغرابيل-في-الدقهلية
مناخل-وغرابيل