سافر الشاعر نزار قبانى إلى روما مع المدرسة عام 1939، وعمره 16 عاما، فكتب خلالها أول أبياته الشعرية.. يتذكر فى مذكراته «قصتى مع الشعر»: «فيما كان رفاق الرحلة من الطلاب والطالبات يضحكون، ويتشمسون، ويأخذون الصور التذكارية على ظهر السفينة، كنت أقف وحدى فى مقدمتها، أدمدم الكلمة الأولى من أول بيت شعر نظمته فى حياتى.. أذهلتنى المفاجأة.. قفز البيت الأول من فمى، كأنه سمكة تنط من أعماق الماء، بعد دقيقتين قفزت السمكة الثانية، وبعد عشر دقائق قفزت الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم العاشرة.. نزلت بسرعة إلى حجرتى فى السفينة، أخرجت دفترا ووضعت فيه كل السمك الذى جمعته، ولم أخبر أحدا من رفاق الرحلة عن كنزى، وللمرة الأولى وفى سن السادسة عشرة «مواليد 21 مارس 1923 - دمشق»، وبعد رحلة طويلة فى البحث عن نفسى نمت شاعرا».
نشر مجموعته الشعرية الأولى «قالت لى السمراء» فى سبتمبر 1944، وسط جو يطلق عليه «الانكشارية الشعرية»، وطبع منها 300 نسخة فقط من مصروفه.. يضيف: «ابتدأت حفلة الرجم»..يضرب مثلا بما جاء بمجلة الرسالة المصرية، مارس 1964، حيث كتب الشيخ على الطنطاوى، قائلا: «طبع فى دمشق كتابا صغيرا زاهى الغلاف ناعما، ملفوفا بالورق الشفاف الذى تلف به علب الشيكولاتة فى الأعراس، فيه كلام مطبوع على صفة الشعر، فيه أشطار طولها واحد إذا قستها بالسنتيمترات».
يصف كلام «الطنطاوى» قائلا: «صراخ رجل اشتعلت فى ثيابه النار»، ورغم أن ذلك حدث عام، إلا أنه عبر مبكرا عن حدة الانقسام الذى تواصل حول شعره، وعاش فى ظله حتى وفاته بلندن 30 إبريل، مثل هذا اليوم، 1998 ثم دفنه بدمشق تنفيذًا لوصيته، وما زال هذا الانقسام يشغل النقاد، وقراء الشعر باختلاف ذائقتهم، كما جرى بين الناقد والعلامة الدكتور الطاهر أحمد مكى»، والشاعر والناقد الدكتور أبوهمام عبداللطيف فى ندوة بمركز رامتان، متحف طه حسين» بالقاهرة، ونشرتها «الجزيرة السعودية 12 سبتمبر 2001».
يقول «مكى»: قرأت شعر نزار وأعجبت به جدا، ووجدت أننى أمام شاعر كبير وعظيم بكل المعانى، والذين يهاجمونه يظلمونه كثيرًا، فالمعروف أن الإسراف فى النقد يقتل الفن ويذهب باللذة الموجودة فى العمل الفنى، والإنسان إذا بدأ فى قراءة رواية أوقصة ولم يتركها حتى يكملها أو إذا قرأ قصيدة وحفظها من المرة الثانية أو الثالثة فهو بلا شك أمام روائى، وشاعر عظيم، بغض النظر عما يقوله حوله النقاد، وأنا شخصيا ما زلت أحفظ قصيدة غرناطة لنزار مثلا رغم أننى لم أقرأها إلا مرة واحدة فقط منذ أكثر من 35 عاما».
يؤكد «مكى» على أن نزار كان شاعرا عبقريا ولعبقريته جوانب سلبية وأخرى إيجابية، فهو عبقرى يبتدع الأنماط والصور والمعانى الجديدة ولا يأتى إبداعه فى مستوى واحد ولكنه متفاوت وله فى ذلك قصائد بلغ فيها القمة وقصائد أخرى لا أرتضيها، وإلى جانب عبقريته كان أيضا شاعرا ثوريا، وأول بيت خطه حطم الأطر التقليدية الشعرية التى كان الشعر وقتها يتحرك فى إطارها.. وكان شاعرا تحريضيا، وكونه شاعرا تحريضيا لا يعنى أنه كان يحرض النساء على الرذيلة كما يتهمه البعض، ولكنه يحرضهن على كسر التقاليد والعادات التى تحول دون قيامهن بدورهن فى الحياة، سواء بسواء إلى جانب الرجال، والحقيقة أنه كان شاعر المرأة والوطنية معا وكان يرى أن نضاله من أجل حرية المرأة لا يختلف عن النضال من أجل حرية الوطن».. يوضح «مكى» أن عبقرية نزار الشعرية كانت تكمن فى انفراده بلغة وموسيقى خاصة به، كانت لغته سهلة وبسيطة تجمع بين حكمة الفصحى، وتقترب من شفافية اللغة الدارجة، وهذه اللغة السهلة البسيطة هى التى جعلته شاعرا جماهيريا، ودواوينه أكثر الدواوين العربية طباعة ونشرا وقصائده أكثر القصائد صلاحية للغناء والطرب».
أما الدكتور أبوهمام عبداللطيف، فقال إنه لا يعترف بنزار كشاعر ولا يقرأ له إلا قبل النوم أو فى المواصلات، ويقرأه مرة واحدة فقط.. يضيف: «لا يمكن أن يتساوى شعره عندى مع شعر العظماء مثل المتنبى والعقاد وغيرهم.. نزار شاعر جماهيرى من الطراز الأول، ولكن معدن الشاعرية فيه مختلف، فالمعروف أن للجماهير لغتها الخاصة، واستطاع أن يضع يده على هذه اللغة ويزينها بموسيقاه التى أتقنها ولا نظير له فيها على ما أعلم، وإذا كانت هذه الموسيقى هى سبب شهرته وجماهيريته فهى عنصر واحد فقط من عناصر الشعر، وليست كل شىء، وأحب الشباب نزار وشعره لأنه لم تنضج تجربته بعد فى قراءة الكلام الجيد كما نضجنا نحن، واعتمد نزار على هذه النقطة فكان يقول أى كلام دون تجويد أو تنقيح لأنه كان يعلم أن الجماهير ستستقبل كل ما يكتبه بنفس الحماس والتصفيق، وأعتقد أنه بعد خمسين سنة مثلًا وحينما يرتقى ذوق الأمة سوف تجعل شعر نزار قبانى فى مخازن الأدب لأنه لا يقدم أى شىء مفيد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة