هنا قد تكون الكتابة فورية ومرتجلة، لكنها تصبح بشكل ما تصبح نقطة ارتكاز وسندًا يحمي ويسعف من صفعة الموت.. سمير صبري بكل شغفه وحماسه، ترك هذه الدنيا وراءه، رحل لتتوقف طاقة هائلة من الحماسة، كانت تشعل في الروح فتيلًا حتى ساعات قليلة مضت، لا أتصور أن شعلته ستنطفيء، فما بقي منه كثير ويفتح أبواب التأمل، لأنه ينتمي إلى هذه الطائفة النادرة، التي صنعت من أدائها وعملها لغة حية لا تغيب.
عرفني إليه المخرج الكبير سمير سيف منذ أكثر من ثماني سنوات، لأكتب عنه كتاب تكريمه في المهرجان القومي للسينما المصرية، فوجدتني أمام شخصية تخفي وراء ابتسامتها المعلنة وحكاياتها الوافيرة، قصصًا أخرى محفوفة بالمخاطر والجَمَال والهيبة، تنتظر اللحظة المناسبة للخروج إلى فضاء الإبهار، إنها اللعبة التي كان يجيدها "أبو سمرة"، كنت أرمقه بنظرات حائرة، متسائلة، فيرد بمهارة اللاعب الخبير وعفوية "المستغني"، ويتركني للدهشة المشحونة بألف انفعال.
أردتُ معرفة هذا العالم الخفي في ذات سمير صبري وفضائه الروحي، تصعب الإجابة الحاسمة على أسئلة كثيرة مرتبطة بمسار طويل من التحديات والأسئلة والتفاصيل الحياتية والإنسانية، لكني توقفت عند سؤال في بداية كتابي "حكايتي مع السينما": هل كان يعلم الاسكندر الأكبر أن مدينته التي تختال على المتوسط ستكون ملحمة البحر وحلمه المشتعل بالثقافة والفنون؟ من شاطيء يحترف أهله الصيد إلى مهد الميلاد لنجوم الفن والإبداع ورموزهما: قسطنطين كفافيس، سيد درويش، بيرم التونسي، عبدالله النديم، محمد بيومي، فاطمة رشدي، سلامة حجازي، توفيق الحكيم، شادي عبدالسلام، جورج موستاكي، يوسف شاهين، عمر الشريف، توفيق صالح، ديميس روسوس، سيف وانلي، المعماري حسن فتحي، إدوار الخراط، محمود مرسي، عادل أدهم و.. غيرهم كثيرون قبل وبعد سمير صبري.
ضحك سمير كثيرًا عند سماعه السؤال، كان ضحك المعتز، المزهو بمدينته الاستثنائية، ولما سافرت معه ذات مرة إليها، مشينا في شوارعها بحرصه ألا يفرط في عاطفته وذكرياته: "هنا مدينتي تفتح ألف شباك على البحر"، قالها ثم قادني إلى ميدان محطة الرمل، واستأنف يحكي دون توقف: " هنا كان مربعنا الذهبى، البيت الكبير، بيت جدي المكون من ثلاث طوابق كان في هذا الاتجاه، ومنه كنت أتحرك مع عائلتي من السينما إلى المسرح أو العكس، بهذه الجولات المكوكية التي كنت أتعجلها في نهاية الأسبوع، لم يُساورني أي شك في أن الاسكندرية كائن حي من لحم ودم، يكبر معي ويلازمني منذ سنواتي الأولى، ويُحدق معي في الأفيشات والصور على أبواب صالات العرض".
حياة سمير صبري مثال ممتاز للتعرف على ملامح الشخصية السكندرية عبر رحلة حافلة لفنان انهمرت مواهبه وتنوعت، كاندفاعات متتالية لموج بحر لا يهدأ وفنان هو الأصل ولديه ثلاث صور: الممثل والمذيع والاستعراضي .. رحلة امتزج فيها الشرقي بالغربي سواء على مستوى الشكل أو المضمون.. الاختيارات أو الصدف التي تغير المسارات والمصائر.
الصدفة لعبت دورًا كبيرًا في حياة محمد سمير جلال صبري الشهير بـ "سمير صبري"، لكنها كانت خير من ألف ترتيب وميعاد، حيث ولد ليكون عضوًا في عائلة سكندرية تحب الفن وتقدره، والده ضابط بالجيش يلتزم بقواعد مهنته التي لا تشغله عن متابعته للفن واحترامه، والدته كانت تعزف البيانو وخالته تعزف العود، والجميع كانوا يصحبونه منذ صغره إلى المسارح والسينما ويشجعونه على حفظ الحوارات الدرامية وتقليد النجوم الكبار.
نموذج لعائلة هي مرآة عاكسة لمجتمع لا يقف على الحافة بل متمترس في الشوارع كما في الموانيء تضرب أمواج البحر شواطئه وتمنحه في ذات الوقت الكثير من العطايا، ولا تنزع عنهم ثباتهم على تقاليد معينة. بعض التأمل يقود إلى فحص ظروف الميلاد والعائلة الميسورة الأحوال التي ينتمي إليها ومدينته التي جعلها القدر من نصيبه، سلسلة مترابطة تُكمل "البازل" وتوضح الشخصية الحقيقية لفنان شغوف بفنه ومُحب للحياة.
ساهمت عائلته في تشكيله بشكل كبير وتأكد هذا الإسهام في اختيار "فيكتوريا كوليدج " لتكون مدرسته التي تركت في نفسه أثرًا بالغًا، فيها تعلق بأنشطة فريق المسرح وتعرف على روايات شكسبير، ما أعاد ترتيب نظرته للحياة وجعله يرتبط بالقراءة أكثر.
تتبع سمير صبري أحلامه، وفي مخيلته أنور وجدي ممثلًا ومخرجًا وكاتبًا ومنتجًا، هو القدوة والأمل، ما يعني تقريبًا أن روح أنور وجدي قد تلبسته، فصاغ مساره الفني وفق هذا النموذج غير العادي للفنان الاستعراضي والممثل، يغني ويرقص ثم يقوم بمغامرة الإنتاج، ويدخل بإرادته المنطقة الخطرة التي يهابها عادة الممثلون، لكنها بالنسبة لسمير صبري كانت النافذة الأوسع التي يطل من خلالها على عالمه المنشود ، ومنها قدم للسينما أدوارًا وشارك فيما يزيد عن 200فيلمًا، منهم نحو 11 فيلمًا من إنتاجه.
الكوميديا كانت خطوته الأولى في الإنتاج السينمائي، الكوميديا، خطوة أغوته وأحبها وخاضها بفيلم "أهلاً يا كابتن" 1980 مع المخرج محمد عبدالعزيز، شاركه البطولة نيللي، عبدالمنعم مدبولي، سناء جميل، سمير غانم، وخطوته الثانية أيضًا كوميدية مغلفة بالرومانسية مع فيلم "شفاه لا تعرف الكذب" (1981) إخراج محمد عبدالعزيز، كذلك تشاركه نيللي بطولته ومعها هدى سلطان، سمير غانم، عماد حمدي، أما السيناريو فكتبه علي سالم بإيقاع سريع وخفيف في عالم يشبه زمن إنتاج الفيلم، في بداية الثمانينيات الذي كان في أوج تأثره بالانفتاح الاقتصادى، وما تبعه من تنامى القيم الاستهلاكية، والرغبة فى الثراء السريع دون جهد حقيقى، وشيوع قيم الخفة والفهلوة وانتهاز الفرص.
بينما كان سمير صبري مفتونًا في صغره بالواقعية الجديدة في السينما الإيطالية التي تحررت من جدران الاستوديوهات وخرجت إلى الشارع، واهتمت بالاقتراب من الواقع وتصويره على هيئته وبؤسه وهمه وجماله، شاءت الظروف أن يدخل سمير صبري ساحة الإنتاج، في الوقت الذي ظهرت الواقعية الجديدة في السينما المصرية، بموازة ظهور، أما سمير صبري فكان مشغولًا برسم خطه الخاص عبر أفلام تؤكد بريق نجوميته، وبقدر ما كان شغوفًا بتجربة أنور وجدي ويراها تجربة عفية تركت ميراثًا هائلًا للسينما المصرية، فقد كان مبهوراً بقدرته على تجميع العديد من النجوم في فيلم واحد، وزخم أفيش الفيلم بصورهم البراقة، كما في أفيش فيلم "غزل البنات": ليلى مراد، نجيب الريحاني، يوسف وهبي، محمد عبدالوهاب، أنور وجدي نفسه، لذا لما أقدم على خطوة الإنتاج كان أول ما حققه، إضافة إلى خط الكوميدي/ الرومانسي، هو حرصه على مشاركته البطولة مع مجموعة من النجوم، ظهر هذا جليًا في فيلم "السلخانة" (1984) إخراج أحمد السبعاوي، والذي التف حوله حشد من النجوم: مديحة كامل، عادل أدهم، نجوى فؤاد، يوسف وهبي، محمد رضا، ميمي شكيب، صلاح نظمي، سيد زيان، أحمد عدوية، ليلى حمادة، حسين الإمام، سعيد عبدالغني، على الأفيش وفي الأحداث التي دارت حول الصراع في عالم السلخانة، العالم المصغر للواقع الخارجي، قطبي هذا العالم (السلخانة) يتحاربان بضراوة على السيادة، وهي الحرب التي ضمنها اسماعيل ولي الدين في روايته التي تحمل نفس الاسم والتي نشرت في "روزاليوسف"، وأكدها سيناريو بشير الديك خلال المعالجة التي أعدها السيد بدير.
من أجواء الأكشن في "السلخانة"إلى أجواء نفسية معقدة ينتقل سمير صبري إلى تجربة أخرى بفيلم "منزل العائلة المسمومة " (1986) إخراج محمد عبدالعزيز عن قصة اسماعيل ولي الدين أيضاً، كتب لها السيناريو والحوار أحمد صالح، مع يسرا أيضًا كان فيلمه "نشاطركم الأفراح" (1986) الخامس في ترتيب قائمته كمنتج ، فيلم أخر من إخراج محمد عبدالعزيز، أما التحدي الذي فعله سمير صبري حقًا، كان "جحيم تحت الماء" (1989) من إخراج نادر جلال وسيناريو وحوار صلاح فؤاد وشاركته بطولته ليلى علوي، أول فيلم مصري يتم تصويره تحت الماء، ثم كرر المغامرة بفيلم "جحيم2"(1990) إخراج محمد أبوسيف وتشاركه البطولة معالي زايد، أما "جحيم تحت الأرض" (2001) إخراج نادر جلال عن فكرة لبهيج اسماعيل وسيناريو وحوار مصطفىى محرم، يكاد يكون هو مغامرته الأكبر الذي هيأ له كل سبل الإنتاج السخي على طريقة الأفلام الأمريكية الكبيرة، عالم أخر في الصحراء وناسه المنتشرين على أرضه وأطرافه، في منطقة العلمين مئات "الكومبارس" الذين يمثلون البدو والأجانب، والجِمال والسيارات والأسلحة وكل مظاهر الحياة التي تدل على عالم ينتمي إلى الأربعينيات بكل ملامحها متأثرًا بالحرب العالمية الثانية وما بعدها، إذن نحن أمام منتج طموح منتبه ومهتم بشئون السينما.
يفعل سمير صبري كل الأشياء في وقت واحد، فمشواره يرصد تجربة متنوعة رشحته ليكون نموذجًا لفكرة الفنان الشامل، وهي الفكرة التي سعى وراءها طوال رحلته من ممثل له حضوره اللافت على الشاشة إلى منتج ساهم بقدر ما في صناعة السينما، من مذيع في الإذاعة إلى مذيع في التليفزيون، من فنان استعراضي لديه فرقته الخاصة إلى المشغول بالعمل العام وتنمية المجتمع حتى أصبح رئيس نادي ليونز نيل القاهرة.
من مذيع في الإذاعة إلى مذيع تليفزيوني لامع قدم برامجه الشهيرة مثل "النادي الدولي"، "هذا المساء"، "وكان زمان"، برامج تجلى فيها وظهرت إمكانياته كموهوب هميق بثقافته الخاصة، وطريقة إدارته لحواراته وتواصله مع أغلب الشخصيات العامة ونجوم المجتمع في مجالات مختلفة، ليدشن نفسه رائدًا من رواد الـ"توك شو" والمنوعات على الشاشة العربية، وصديقًا للكاميرا كما وصفه أديبنا الكبير خيري شلبي في بورتريه كتبه عنه بعنوان (صديق الكاميرا)، قال فيه:" من حسن حظه أنه صاحب وجه وسيم وقوام ممشوق، أي أنه باديء ذي بدء صديق الكاميرا.. وهذا ما حدث بالفعل فقد أقامت الكاميرا معه علاقة ود طيبة جدًا، بل احتضنته، وتحيزت له، وأصبحت تتعطف عليه في كل مشهد، وتتعرف عليه في كل زاوية كما تتعرف الأم على ابنها فلذة كبدها وسط الملايين من أقرانه وذويه".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة