"مصر ستلعب دورا مهما لإبقاء المجتمع العالمى على المسار الصحيح".. هكذا علقت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، على الزيارة التى قامت بها إلى القاهرة، ولقائها المهم مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، فى إطار شهادة جديدة للمكانة الكبيرة التى باتت تحظى بها الدولة المصرية، فى إطار "جمهوريتها الجديدة"، إثر تغيير كبير تشهده الساحة الدولية من جانب، ناهيك عما يمكننا تسميته بالقدرة الكبيرة على إصلاح النهج الدبلوماسى، من جانب آخر، ليقوم على التحول نحو تعددية التحالفات، وكذلك تحويل العلاقة مع القوى الدولية الكبرى إلى إطار من الشراكة، بعيدا عن سياسات الدعم القائمة على شراء المواقف السياسية، وهو الأسلوب الذى هيمن إلى حد كبير على السياسة الخارجية المصرية، وربما دعمته الظروف الدولية، فى ظل الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي، منذ الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفيتى، أو حتى قبلها بسنوات.
ولعل توقيت الحديث من قبل أكبر القيادات فى الاتحاد الأوروبى، عن دور مصرى، على المستوى العالمى، وليس كما جرت العادة، فيما يتعلق بالنطاق الإقليمى أو حتى القارى، يمثل تغييرا مهما، إلى حد اعتباره "نقطة تحول" مهمة فى إطار العلاقة بين مصر ومحيطها الدولي، إذا ما وضعنا فى الاعتبار العديد من الحقائق، ربما أبرزها الرفض الدولى لثورة 30 يونيو، أى قبل بضعة سنوات قليلة، والمحاولات المستميتة من قبل العديد من القوى الدولية والإقليمية لوأد "الجمهورية الجديدة"، قبل مولدها، وهو ما يعنى أن التغيير الملموس فى المواقف الدولية، وفى القلب منها موقف الاتحاد الأوروبى نفسه، هو بمثابة انتصارا جديدا للدولة المصرية، على المستوى "النظرى"، التى انتصرت لإرادة الملايين من أبنائها، الذين سعوا نحو استعادة بلادهم من براثن الفوضى التى عاشوا فيها لسنوات فى أعقاب "الربيع العربى".
ولكن بعيدا عن الإطار "النظرى" لانتصار الدولة فى إطار "جمهوريتها الجديدة"، ربما نجد أن ثمة جانبا "عمليا" ملفتا، للجهود التى بذلتها الدبلوماسية المصرية، فى سنوات ما بعد 30 يونيو، والتى لم تقتصر فى نطاقها على منطقة أو إقليم بعينه، وإنما امتدت إلى التوسع نحو مناطق جديدة، بدءً من التقارب مع اليونان وقبرص، فى إطار تحالف ثلاثى، ساهم فى تدشين منتدى غاز شرق المتوسط، ناهيك عن الوجود القوى فى أوروبا الشرقية، عبر تجمع "فيشجراد"، وهى المناطق التى تمثل جزءً من أوروبا وتكتلها القاري، بالإضافة إلى كونها على خط الصراع الدائر حاليا، فى إطار دبلوماسية اعتمدت ما أسميناه مسبقا بـ"اكتشاف النقاط الميتة" فى دوائر العلاقات الخارجية المصرية، مما يمثل انعكاسا مهما للأهمية الكبيرة التى باتت تحظى بها مصر داخل القارة العجوز.
ويعد الصعود الكبير للدولة المصرية داخل أوروبا، بالتزامن مع العديد من الأزمات الدولية، وعلى رأسها الأزمة الأوكرانية الراهنة، وتداعياتها الكبيرة، أحد أهم العوامل المهمة، فى حالة من الاستقطاب الدولي، للدور الذى يمكن تلعبه مصر، وهو ما بدا بوضوح فى الملفات التى مثلت أولوية كبيرة لدى رئيسة المفوضية الأوروبية، سواء فيما يتعلق بمسألة الأمن الغذائى أو الطاقة، ناهيك عن قدرتها الكبيرة على القيام بدور "وسيط" يمكن الاعتماد عليه، فى ظل موقف الدولة المحايد، تجاه طرفى النزاع.
الحديث عن دور مصرى فى قضايا الأمن الغذائى والطاقة، يمثل انعكاسا لبعد ثالث، بعيدا عن الجانبين النظرى أو الدبلوماسى، يدور فى قدرتها الكبيرة على تحقيق طفرة مهمة فى هذه الملفات على مستوى الداخل، بالشكل الذى يسمح بتحقيق قدر كبير من الاكتفاء، بل ويمكن أن تكون إنجازاتها قاعدة مهمة للانطلاق نحو آفاق أكبر، عبر التصدير إلى العديد من المناطق حول العالم، خاصة تلك التى تعانى نقصا حادا فى العديد من السلع الاستراتيجية، فى ظل تفاقم الأزمة التى تشهدها أوكرانيا، والتى تعد إلى جانب روسيا أكبر مصادر تصدير الغذاء والطاقة.
الدور المصرى لم يقتصر على الصراعات الدولية التقليدية، وإنما امتد إلى ما أسميناه فى مقالات سابقة "الصراع مع الطبيعة"، حيث تلعب دورا مهما فيما يتعلق بقضية التغيرات المناخية، وهو الدور الذى دفع نحو اختيار الدولة المصرية لتنظيم قمة المناخ المقبل، والمقرر فى انعقادها فى نوفمبر فى مدينة شرم الشيخ، فى شهادة نجاح هامة، تعكس بما لا يدع مجالا للشك حالة الانسجام بين سياسات الداخل عبر مشروعات عملاقة من شأنها تحقيق التنمية الاقتصادية، مع مراعاة البعد البيئى، من جانب، بالإضافة إلى قدرتها على تعميم تجربتها فى محيطها الإقليمى، من جانب أخر، ناهيك عن دورها فى الدفاع عن مصالح دول العالم النامى فى تحقيق التنمية، والمناداة بحقهم فى الحصول على الدعم من الدول المتقدمة التى تعد المسئول الأول عما آلت إليه الأوضاع المناخية فى العالم.
وهنا يمكننا القول بأن زيارة رئيسة المفوضية الأوروبية للقاهرة، وشهادتها بحق الدور المصرى على المستوى العالمي، يمثل فى جوهره دليلا جديدا على الإنجاز التى حققته "الجمهورية الجديدة"، على المستوى الدبلوماسى، بل ويعد بمثابة "تفويض" جديد للدولة المصرية للعمل على التصدى على التحديات الكبيرة التى يشهدها العالم فى المرحلة الراهنة.