"ساكن في حي السيدة/ وحبيبي ساكن في الحسين/ وعشان أنول كل الرضا/ يوماتي أروح له مرتين م السيدة لسيدنا الحسين..."
أستمع إلى صوت محمد عبد المطلب، متعجبة ليس فقط من رسوخه وتماسكه ثم تبدلاته، وتجلياته في الارتجال، إنما كذلك من هذا التلاعب البديع، الممتع الذي يؤرجحنا به الموسيقار محمد فوزي بين مقامات أربع لحن بها هذه الطقطوقة المرهفة في العام 1960، بدأها بالكرد، المقام الغجري والأساسي لأغنيات الفلامنكو، ثم تبعها بـ الراست، الصبا، البياتي، مقامات صاغت الحالة العاطفية التي كتبها الشاعر زين العابدين بن فتح الله، وصور فيها معاناة الحبيب الذي يقطن في حي السيدة، بينما حبيبه يسكن في حي الحسين، الذي يفترض أنه بعيد عنه، لكنه يضطر للذهاب إليه مرتين، كي ينال رضاه ومحبته.
بصرف النظر عن أن هذه الحالة العاطفية من الناحية الشكلية لا تلائم نسق عصرنا الحالي، وأن المشوار بين السيدة والحسين ليس بعيدًا بما يجعل من الحكاية معضلة وعناء، بل يحولها إلى نوع من التندر والسخرية، وهو ما يحدث بالضبط عند سماع البعض للأغنية، لكن على الرغم من إيقاعها المختلف، وشكوى الحبيب فيها ومكابدته البسيطة، يبدو من العدل في حياتنا الحالية، المحتشدة بالخوف والرعب والحروب والضغوط الاقتصادية، أن نستمع إلى أصوات وموسيقى، تصنع نوع من التماس الإنساني وتأخذنا بطريقة ما إلى مطارح لطيفة من الخيال.
ربما يكون الأمر غريبًا في عالمنا الحالي المعطوب بالعنف، أن نستمع لهذه النوعية من الأغنيات والموسيقى، وله الحق من يتندر عليها، لأنها لا تشبهه، كما أنها خارج بهرجة ذبذبات الموسيقى التي اعتاد سماعها، ومنهم حتى حفيدة عبد المطلب التي قابلتها بالصدفة، وفرحت بها أولًا لأنها حفيدته، وثانيًا لأنها كانت أول امرأة ألتقي بها سائقة أوبر (uber)، وحيرتني قليلًا عندما أخبرتني أنها لا تحفظ أغاني جدها، فهي لا تحب القديم وخصوصًا الشعبي منه.
بالطبع، لا أقصد نبش القديم وإن رأيته جميلًا، يمتلك الكثير من مقومات الغواية لسماعه، ولا أتهم من يفضلون الجديد، الذي أحبه أنا أيضًا بالمناسبة، أنهم متخبطون في السماع والهوية، وبالتالي أنهم مضطرون لسماع عبد المطلب، مطرب المائة أغنية، والحضور السينمائي في 25 فيلمًا سواء مغنيًا أو ممثلًا، وصاحب المشروع الفني الحافل بالعمل المستمر خلال 48 عامًا، إنما الفكرة في المعرفة بكنوزنا القديمة، كمحاولة لترسيخ الجمال في ذاكرتنا وأذهاننا.
هل تعرفون أن الاستماع مثلًا لأغنية "ما بيسألش عليّا أبدًا/ ولا بتشوفة عينيّا أبدًا/ يا ما ناديته/ واترجيته/ إنه يرّق شوية .. أبدًا)، لا يجرنا للتأمل في كلمات شاعر مهم مثل فتحي قورة، أو وألحان موسيقار كبير مثل محمود الشريف، بما قدماه سويًا من توليفة براقة وشجية، ونفس الأمر مع كلمات عبد الباسط عبد الرحمن وألحان رياض السنباطي في" شفت حبيبي وفرحت معاه/ كان وصل جميل حلو يا محلاه"، بل يشدنا إلى قاعدة مهمة ملخصها أن الغناء من متع الحياة، وأن أبسط السبل لفهم الموسيقى، هو الاستماع إليها لمجرد الاستمتاع بها، ومن هنا إذا استوعبنا ذلك نقدر ننول كل الرضا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة