"متلازمة العبور".. تبدو مرتبطة إلى حد كبير بالدولة المصرية، منذ بدء النظام الجمهوري، إثر ثورة يوليو، في العديد من المراحل التاريخية، بينما اختلفت طبيعة العبور في كل مرة، بحسب الظروف التاريخية، ولكنها كانت دائما علامة للانتقال من مرحلة إلى أخرى جديدة، بدءً من التحول من النظام الملكي، والتي عبرت فيها مصر العديد من العقبات، ربما لم تكن أبرزها طبيعة نظام الحكم، ولكن في الحقيقة تغاضيه عن فكرة "السيادة"، لتبدأ مرحلة التحرر العملي من الاستعمار، والذي بدأ نظريا مع معاهدة 1936، والتي أقرت الاستقلال، دون تحقيق ذلك عمليا، حيث كانت الضغوط التي تمارس على القصر والحكومة، في الكثير من الأحيان تفرض إرادة الدول الاستعمارية، وهو ما تحقق فعليا بتأميم قناة السويس وإجبار القوات الإنجليزية على الجلاء الكامل من الأراضي المصرية.
بينما ارتبطت حقبة الصعود إلى القيادة الإقليمية، في منطقة الشرق الأوسط، بـ"عبور" أخر، تجسد في ملحمة أكتوبر 1973، والذي تحولت عبره مصر، من دولة لا تملك السيادة على جزء من أراضيها التي احتلتها إسرائيل، إلى قوى يمكنها فرض كلمتها، بالحرب أولا، عبر استرداد الأرض بالقوة العسكرية، ثم قدرتها منقطعة النظير في فرض السلام، على أكثر الأطراف الدولية تعنتا في قبول التنازلات، خاصة إذا ما تعلقت بالأرض، والنماذج مازالت حية وشاهدة على ذلك، لتبدأ بعدها الدولة المصرية، مرحلة جديدة من الثقة الدولية، سواء فيما يتعلق بقوتها العسكرية، أو قدرتها الدبلوماسية، لتتحول إلى القوى الفاعلة في المنطقة، والقيادة الإقليمية التي يمكنها التفاوض باسم قضيتها الرئيسية وهي القضية الفلسطينية.
وبين ملحمة أكتوبر، وثورة 30 يونيو، نجد أن ثمة عبورا جديدا، نحو "الجمهورية الجديدة"، والتي اعتمدت المسارين سالفي الذكر، ومعهما مسارات جديدة، فالسيادة على الأرض كانت أحد أولوياتها، عبر تحرير تلك المناطق التي سيطرت عليها جماعات الإرهاب، تمهيدا لبناء دولتها المزعومة، من خلال معركة أكثر شراسة، ضد عدو خفي، آثر الاختباء داخل الجحور، متبنيا استراتيجية الجبناء، بضرب خصمه في غفلة، لا يراعي أدنى قواعد الدين، الذي اتخذ منه ستارا لتبرير جرائمه، فيسفك الدماء دون حق، ويغدر بالآمنين أثناء صلاتهم أو صيامهم، في حين تحركت الدولة، في الوقت نفسه نحو حماية أبنائها من السقوط في مستنقع تلك الجماعات عبر حملات توعوية واسعة، نجحت في تحقيق تجفيف منابع الاستقطاب التي طالما استخدموها، عبر مواقع "السوشيال ميديا"، ونجحت في تأمين الحدود لقطع مصادر التمويل، فكان العبور من معضلة الإرهاب، ذو أبعاد متعددة، لا يقتصر على استرداد الأرض، وإنما يمتد إلى القضاء عليهم فكريا وبشريا وماليا، بحيث لا يمكنهم العودة مجددا.
المسار الثاني لـ"عبور 30 يونيو"، يتجسد في تحقيق التنمية، بمفهومها المستدام، عبر مشروعات عملاقة، تحمل في طياتها عنصر الامتداد المكاني والزماني، حيث امتدت أعمال التطوير لتشمل كافة محافظات المحروسة، دون تفرقة أو تمييز، من الإسكندرية إلى أسوان، مرورا بسيناء والصعيد، من أجل في إطار من الشمولية، بحيث تضمن الدولة مستقبل كافة مواطنيها، بالإضافة إلى الاستفادة من إمكانات كافة مناطق الجمهورية، سواء كانت زراعية أو صناعية أو سياحية، لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب، سواء على مستوى الاقتصاد الكلي، أو فيما يتعلق بحياة سكانها، وتحديدا الشباب منهم، والذين يمكنهم الحصول على فرص عمل بعيدا عن الهجرة من مناطقهم، كما كان الحال في العقود الماضية عندما كان التركيز منصبا على مناطق محدودة.
بينما يبقى المسار الثالث متجسدا في "العبور" من القيادة الإقليمية، إلى القيام بدور فاعل، ليس فقط على الساحة الإقليمية، وإنما أيضا على الساحة الدولية، وهو ما يبدو في النجاح الكبير لـ"الجمهورية الجديدة"، في التحول نحو دور دولي أكبر متجاوزة النطاق الإقليمي، الذي رسمته لها القوى الدولية الكبرى، خلال حقبة ما بعد الحرب الباردة، وربما قبلها بسنوات قليلة، وهو ما يبدو في قيادة دور عربي في الأزمات الكبرى، وأبرزها القضية الأوكرانية، ناهيك عن الدور القيادي في التعامل مع صراعات غير تقليدية يبدو العالم على موعد معها، وعلى رأسها التغيرات المناخية، وهو الدور الذي يترجمه اختيار مصر لاستضافة قمة المناخ المقبلة في نوفمبر بمدينة شرم الشيخ.
وهنا يمكننا القول بأن "عبور 30 يونيو"، لم يكن منعزلا عن المراحل التاريخية السابقة وإنما مرتبطا بهم، في شمولية استعادت نجاحات الماضي وأمجاده، وتماشت مع مستجدات الواقع الجديد، في إطار منسجم مع طبيعة "الجمهورية الجديدة"، والتي تعتمد منهج التحرك على مسارات متعددة في وقت واحد، لإنجاز أكبر قدر من المكاسب، سواء اقتصاديا أو أمنيا، أو حتى على المستوى الدولي.