أدوات عدة باتت تنتهجها الدولة المصرية، فيما يتعلق بإدارة علاقتها الدولية، من رحم الأزمات الدولية الراهنة، خاصة في مناطق عمقها الجغرافي والاستراتيجي، وفي إطار دوائرها الدبلوماسية، وهو ما يبدو على سبيل المثال داخل القارة الأفريقية، والتي شهدت عودة كبيرة للدور المصري، في السنوات الأخيرة، تزامنا مع ميلاد "الجمهورية الجديدة"، بعد سنوات طويلة من الإهمال، وهو ما يبدو في العديد من المواقف الدولية الأخيرة، التي تبنت فيها مصر مواقف داعمة لدول القارة، في العديد من قضاياها، وآخرها المبادرة التي أعلنها الرئيس عبد الفتاح السيسي لتقديم 30 مليون جرعة للتطعيم ضد فيروس كورونا للأشقاء في القارة السمراء، وبالتنسيق مع الاتحاد الأفريقي.
ولعل المبادرة الأخيرة تجسد العديد من ملامح الدبلوماسية المصرية، في التعامل مع المحيطين القاري، والإقليمي، وتمثل رؤيتها في الكيفية التي تستعيد بها ريادتها، عبر مسارين، أولهما يقوم على البناء على الإرث التاريخي، والذي يعتمد على أساس توحيد المواقف في مواجهة الأزمات القائمة، وهو النهج الذي يعود في الأساس إلى حقبة الستينيات من القرن الماضي، والتي شهدت دعما مصريا للدول التي عانت من الاستعمار الأجنبي، وتعزيز حركات التحرر في كافة الدول المستضعفة، لاستعادة حقوقها والسيطرة على مصادرها المستنزفة، من قبل القوى الاستعمارية، ناهيك عن تبني موقفا محايدا تجاه الصراعات الدولية، على أساس الأبعاد المصلحية، وهو ما بدا في الدور القيادي الذي لعبته مصر في "حركة عدم الانحياز"، والتي أبت الاصطفاف إلى جانب فريق على حساب فريق إبان الحرب الباردة.
وعلى الرغم من التغيير الكبير في طبيعة الأزمات التي يشهدها العالم، والتي تضيف المزيد من الأعباء على الدول الفقيرة، وفي القلب منها في القارة الإفريقية، نجد أن ثمة مقاربات عدة في النهج المصري، يقوم في الأساس على دعم المواقف الإفريقية تجاه الأزمات التي تواجهها، وهو ما يبدو، ليس فقط في المبادرة الأخيرة والتي تهدف لمساعدة الأشقاء في مواجهة الوباء، وإنما أيضا في العديد من القضايا الأخرى، ربما أبرزها التغيرات المناخية، عبر دعم مواقف الدول الإفريقية، ومن ورائها الدول النامية، حول تقليل الانبعاثات، ومطالبة الدول المتقدمة بتحمل مسؤوليتها تجاه الأزمة، والتي تمثل نتيجة "التهور" الكبير في استخدام الوقود الأحفوري، في إطار السعي نحو تحقيق التنمية الاقتصادية دون اعتبار لمتطلبات البيئة، وبالتالي ضرورة احتفاظ الدول الأخرى، خاصة في إفريقيا في تحقيق التنمية، من أجل تحسين أوضاع مواطنيها.
المقاربة الأخرى، تتجسد في تبنى موقف الحياد "الإيجابي" تجاه الصراعات الدولية الكبرى، والذي يرتبط بمصالح المناطق الجغرافية، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، وهو ما يبدو على الجانبين العربي والإفريقي، من خلال لجنة الاتصال الوزارية التي دشنتها جامعة الدول العربية، والتي تعتمد مسارا يقوم على الوساطة بين طرفي الصراع، وهو ما بدا في الجولة التي قامت بها إلى موسكو ووارسو، للقاء وزيري خارجية روسيا سيرجي لافروف، والأوكراني دميتري كوليبا من جانب، ومسار أخر يقوم في الأساس على حماية مصالح دولها الأعضاء، عبر إيجاد الوسائل والآليات التي من شأنها تجاوز التداعيات المترتبة على الصراع وعلى رأسها أزمة الغذاء.
الموقف نفسه ينطبق على الجانب الأفريقي، والذي استلهم الرؤية المصرية، والعربية، في الزيارة التي قام بها الرئيس السنغالي، ماكى سال، والذي يترأس الاتحاد الإفريقي، لروسيا، بالإضافة إلى دولا أوروبية أخرى، للحديث عن الكيفية التي يمكن من خلالها تخفيف تداعيات الأزمة الأوكرانية، بالإضافة إلى إعلانه عن نيته زيارة كييف، في انعكاس للمسعى الإفريقي نحو القيام بدور الوسيط فيما يتعلق بالأزمة الراهنة، نظرا لأثارها الكبيرة والعميقة، على الأوضاع داخل القارة.
أما عن المسار الثاني في النهج المصري في قيادة محيطها الإقليمي والقاري، فيعتمد بصورة كبيرة على تعميم تجربة الداخل، والتي تمثل نجاحا منقطع النظير، فيما يتعلق بالعملية التنموية غير المسبوقة، التي تشهدها مصر، سواء عبر المشروعات العملاقة، أو الأبعاد البيئية والصحية، في إطار النجاحات الكبيرة والتي تصب في مجملها في كفة "التنمية المستدامة"، والتي لا تقتصر في نطاق الرؤية المصرية على الداخل، وإنما تمتد إلى ضرورة تعميم هذا المنظور، إقليميا وقاريا، لتحقيق هذا الهدف،
وهنا يمكننا القول إن مبادرة الرئيس السيسي الأخيرة تجاه أفريقيا، تمثل حلقة جديدة من سلسلة من الخطوات المنسجمة والمسارات المتوازية، التي تهدف في الأساس إلى البناء على الرصيد التاريخي الكبير للدور القيادي الذي طالما لعبته الدولة المصرية، بينما يعتمد أدوات جديدة، تهدف لمسايرة مستجدات العصر والزمن، والتغيير الكبير في طبيعة التحديات التي تشهدها المنطقة، تنسجم مع العديد من المبادرات الصحية التي أطلقتها مصر فى الداخل، فى إطار تعميم تجربتها.