"العالم لا يحتاج إلى العلم، بقدر ما هو محتاج إلى الأخلاق الحسنة".. أصبحنا في حاجة ماسة إلى تجسيد هذه المقولة في واقعنا بسبب ما نراه يوميًا من تراجع وتدنى كبير في المستوى الأخلاقي داخل مجتمعاتنا، سواء في تعاملاتنا اليومية بشكل مباشر أو على ساحات السوشيال ميديا، ولعل ما حدث مع أحمد يحيي حارس مرمى الاتحاد السكندري خير دليل، عقب ما تعرض له من سباب من جانب الجماهير عقب تلقي شباكه لخمسة أهداف خلال الخسارة أمام فريق سيراميكا كليوباترا بخماسية نظيفة في المباراة التي جمعت الفريقين، ضمن منافسات الجولة 24 من عمر مسابقة الدوري المصري، رغم علم الجميع بما يمر به بسبب وفاة شقيقه.
بكل تأكيد هذا الموقف لم يؤثر على أحمد يحيي فقط، بل تأثرنا به جميعًا عند مشهد بكائه عقب هجوم الجمهور عليه من المدرجات، حتى أن ابني هادي الذي بدأ يتعلق بالتشجيع مثله مثل باقي الأطفال، وجدته يتحدث معي متأثرًا بالواقعة، قائلًا:" ليه يعملوا كده مع الحارس.. الكرة مكسب وخسارة، ده مش أخلاق".
هنا لامس الطفل الصغير الحقيقة المعروفة للجميع عن أن الأخلاق يجب أن تكون قبل أي شيء، كما أن المنافسات الرياضية وجدت من أجل الروح الرياضية، ومن الضروري على من يمارس الكرة أو يشجعها أن يتحلى بهذه الأخلاق.
"يعنى إيه كورة"؟.. يعنى إثارة ومتعة ولعبة حلوة.. يعنى انتماء.. يعنى أخلاق.. يعنى تشجع فريقك اللي بتحبه ع الحلوة والمرة.. يعنى الروح الرياضية في مباريات القمة بين الأهلي والزمالك.. يعنى تشوف وتتفرج على أساطير الكرة من ملوك الإبداع مع عالم الساحرة المستديرة في كل زمان، هكذا قرأنا وتعلمنا أو ما نتمنى أن نراه.
فعليًا، التدهور الأخلاقي التي تعيشه الرياضة لم يعد مقتصرًا على مخالفات من بعض المسؤولين أو اللاعبين فقط، بل بات ممتدًا للجماهير بشكل أكبر حتى وصلنا إلى هذا المستوى من الانحطاط، فمن يستطيع أن يصطحب حاليا معه زوجته أو أخته أو ابنته لمتابعة إحدى المباريات في الملعب؟.. طبعا الإجابة معروفة مسبقًا، لا أحد بسبب الألفاظ البذيئة التي تخرج من أفواه الجماهير خلال متابعة المباريات سواء تجاه المنافس أو حتى لاعبي فريقهم عند إضاعة الفرص.
ما نراه على أرض الواقع يومًا بعد يوم خلال الفترة الأخيرة أن جماهير الكرة أصبحت تعانى من أزمات غير مسبوقة تجاه بعضها البعض، فالتشجيع بينها لم يعد قاصراً على استخدام مفردات بث الحماسة للاعبين أو الهتافات بأسمائهم، بل أصبح السباب وتبادل الاتهامات هو السمة الغالبة على بعض المشجعين المواظبين على حضور المباريات، أو خلف شاشات نافذة مواقع التواصل الاجتماعي، فلك أن تتخيل مثلاً كم الألفاظ المسيئة بين جماهير الأهلي والزمالك بعد كل مباراة، يكون طرفها أحد الناديين الكبار، سواء في الدوري أو حتى البطولات الخارجية مثل دوري أبطال أفريقيا والكونفدرالية، رغم أنه من المفروض أنهما يلعبان باسم مصر، ويجب تشجيعهم لرفع علم بلدنا عاليًا.
الأخطر هنا أيضًا أن هذه المعارك انتقلت لقيادات الأندية نفسها، مما يجعلنا نرى حالة من التشاحن غير المسبوقة بين اللاعبين والأجهزة الفنية خلال المباريات، وذلك على عكس ما كنا نراه في الأزمنة السابقة، حيث كان الترابط بين الجميع والتنافس الشريف هو السمة السائدة، وليس معنى كلامي أنه لم يكن هناك تعصب كروى بين الجماهير في زمن الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، لكن لو حدثت بعض المناوشات كانت لا تخرج عن الإطار المحترم ووصلات الهزار والتريقة التي لا تنتقص من الآخر، لأن كان هناك رجالاً يعلمون المعنى الحقيقي لمفهوم الأخلاق والتنافس الرياضي ويعشقون بلدهم دون أي اعتبارات أخرى مثل البيزنس الخاص وغيرها من الأمور الأخرى على هذا القبيل.
بالتأكيد ما تعرض له حارس الاتحاد مخالف لكل الأعراف والتقاليد التي تربينا عليها، ولا يمت بأي صلة للروح الرياضية الهدف الأسمى من ممارسة كرة القدم، ولا أعلم لماذا وصل بنا الحال إلى هذه الدرجة المتدنية من الأخلاق؟ فقد أصبح العالم يرى "غسيل" الكرة المصرية علناً، وهو ما يؤكد أن هناك "نقص" في المفهوم الحقيقي جراء المنافسات في كرة القدم والهدف الأسمى من ممارستها، وذلك على عكس ما نشاهده في معظم دوريات العالم التي تعيش في هدوء وسكينة ويكون الهدف الأول هو البحث عن المنافسة أو إثبات الذات.
هذا الأمر يشغلني كما يشغل الكثيرون، فأنا أحاول أبحث عن أسباب ما يحدث في حرب التراشق بالألفاظ والعنف في مدرجات جماهير "الساحرة المستديرة" أو خلف شاشات التلفاز بين مسؤولي الأندية، وعلى ساحات "السوشيال ميديا" بين الجماهير ولاعبين سابقين ينتمون إلى القطبين، فلم أجد مبرراً واحداً لكل ذلك.
الخلاصة هنا تقول:
-نحن في أشد الحاجة إلى كرة منزوعة العنف وبروح رياضية بعيداً عن وصلات الردح والسباب
-نحن في حاجة إلى العودة إلى زمن التشجيع الجميل، فالسحر الحقيقي هو مشاهدة منافسات كروية مثلما كنا نرى قديما، منافسة قوية داخل الملعب فقط يغلفها روح رياضية بين جميع اللاعبين، على أن نبارك للفريق الفائز ونقول: "هرد لك للفريق الخاسر".
-نحتاج أن تختفي كل هذه الظواهر السلبية التي يعج بها المجتمع الكروي في الوقت الحالي على أمل أن تكون كرة القدم التي لطالما عشقناها مدرسة تخرج جيلا من الشباب المهذبين الذين يتحلون بالروح الرياضية والصبر وروح التحدي
-نحتاج إلى عودة الإعلام الرياضي المهنية والعزف المنفرد في الانفرادات وإبراز الجوانب الإيجابية بدلاً من التركيز على الشتائم والمهاترات.. "أعتقد أن ذلك بداية تصحيح مسار الرياضة المصرية وليست كرة القدم فقط".
ختامًا، أتمنى أن يتراجع أحمد يحيي عن قراره بالاعتزال ويدافع عن حلمه للنهاية ولا يهرب من الميدان، كما نهمس في آذان من ارتكبوا هذه الحماقات بأن يعودوا إلى صوابهم ويعلمون أن الأخلاق هي الباقية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة