تغيير ملموس يبدو في ميزان العلاقات الدولية في المرحلة الراهنة، يبدو بوضوح، ليس فقط على مستوى القمة، في ظل صعود الصين، وعودة روسيا، بما يمكنهما من منافسة الولايات المتحدة على عرش القيادة الدولية للعالم، وإنما أيضا في إطار التكتلات الإقليمية، وهو ما يبدو في محاولات الاستقطاب الواضحة بين القوى المتنافسة على القمة، على العديد من مناطق العالم، وفي القلب منها المنطقة العربية، وهو ما يؤكد أهمية تلك المنطقة، خاصة مع تصاعد أزمات، تبدو مستحدثة على الأقل بالنسبة لدول العالم المتقدم، على غرار أزمتي الغذاء والطاقة، واللتين ترتبتا على الأوضاع المتأزمة حاليا في أوكرانيا، بينما تبقى الأمور مرشحة للتفاقم، في المرحلة المقبلة، مع المخاوف الكبيرة إثر ظاهرة التغيرات المناخية.
إرهاصات التغيير الكبير في المعادلة الدولية، وصعود أهمية المنطقة العربية، لم يكن وليد اللحظة، وإنما ربما بات ملحوظا مع السياسات التي تبنتها الإدارة الأمريكية السابقة، برئاسة دونالد ترامب، والذي أدرك "خطايا" أسلافه، وعلى رأسهم جورج بوش، والذي أطلق خطة "الفوضى الخلاقة"، ربما مستبقا تصريحات وزيرة خارجيته كونداليزا رايس، والتي دارت حول ما يسمى بـ"الشرق الأوسط الجديد"، عبر غزو العراق، وتحويلة إلى نقطة صراع إقليمي في المنطقة، بينما سعى خليفته باراك أوباما، إلى استكمال الطريق عبر تقويض القوى العربية في إطار "الربيع العربي"، والذى كان فرصة مهمة لتسليم القيادة الإقليمية إلى قوى غير عربية، ليستهل الرئيس الأمريكي السابق حقبته بزيارة إلى المملكة العربية السعودية، شهدت انعقاد قمم الرياض الثلاث (أمريكية خليجية – وأمريكية إسلامية – وأمريكية عربية) في مايو 2017، لتكون بمثابة محاولة لـ"إعادة الاعتبار" للدول العربية، في أعقاب سنوات الفوضى.
وبين قمم الرياض الثلاث، وقمة جدة المنعقدة مؤخرا، ثمة "حزمة" من الانتصارات حققها التكتل العربي في غضون سنوات قليلة، أبرزها استمرار محاولات واشنطن في استعادة ثقة حلفائها في المنطقة العربية، بعد سنوات من التراجع الكبير، إبان العقد الماضي، وهو ما يمثل انعكاسا لحالة من الثقل باتت تحظى به الكتلة العربية، مع التوجه نحو التنسيق والتعاون، في مواجهة المخاطر، على الأقل الأمنية، وعلى رأسها الإرهاب، مع استشعار حالة القلق الكبير إثر تداعيات الفوضى التي تسببت بها حقبة "الربيع العربي"، بينما تزايدت دائرة العمل العربي المشترك، مع تفاقم التحديات، لتتجاوز المسائل الأمنية التقليدية، نحو أزمات دولية أكثر اتساعا، على غرار الأزمة الأوكرانية الحالية، والنجاح المنقطع النظير في تحقيق موقف موحد، من شأنه تقوية كفة الدول العربية في ميزان العلاقات الدولية، وهو ما بدا في جهود كبير بذلتها الدبلوماسية المصرية إلى جانب شركائها الاقليميين من المحيط إلى الخليج ناهيك عن دور مهم لا يمكن تغافله لجامعة الدول العربية لم يتوقف عند توحيد المواقف وإنما امتد إلى القيام بدور الوساطة عبر لجنة الاتصال الوزارية العربية بالإضافة إلى التنسيق فيما يتعلق بتداعيات الأزمة على مستوى الدول العربية.
وهنا كان توجه إدارة الرئيس بايدن نحو استلهام نهج سلفه، وخصمه اللدود، دونالد ترامب، عبر "استنساخ" قمة عربية أمريكية، من شأنها، ليس فقط التنسيق فيما يتعلق بالقضايا المشتركة، وإنما تحمل في طياتها أبعادا عدة، ربما أبرزها استرضاء تلك الكتلة المهمة، بعدما أدركت القوى المهيمنة على العالم لعقود طويلة من الزمن أن تهميشها لصالح قوى أخرى يبدو مستحيلا، ناهيك عن الحاجة الكبيرة إليها، في المرحلة الراهنة، سواء في معركة الحشد لمواجهة المنافسين على قمة النظام الدولي، أو فيما يتعلق بتقديم حلول للأزمات الراهنة، وعلى رأسها أزمتي الغذاء والطاقة
لم تقتصر عملية "الاستنساخ"، التي أجراها بايدن، على مجرد الاجتماع مع القادة، أو اختيار مقر انعقاده في المملكة العربية السعودية، وإنما امتدت إلى المحطات التي شملتها الجولة التي أجراها في إطارها، وإن اختلف ترتيبها، حيث كانت السعودية هي المحطة الأولي في جولة ترامب، ثم انتقل منها إلى إسرائيل، لتكون رحلته إلى تل أبيب هي أول رحلة مباشرة من الأراضى السعودية إلى إسرائيل، وبعدها إلى الفاتيكان، في جولة تحمل في طياتها طبيعة دينية، لارتباطها بالأديان السماوية الثلاثة، بينما آثر بايدن الصورة السياسية، ذات الطبيعة التقليدية، فاستهل جولته بإسرائيل، في رسالة استقطاب للكتلة الداعمة لها في الداخل الأمريكي، ومنها إلى السعودية، وبينهما الأراضى الفلسطينية، في إشارة إلى عودة واشنطن إلى المدار الفلسطيني، باعتبارها قضية العرب الرئيسية، بعد سنوات من محاولات تهميشها، وهو ما يمثل انتصارا اخر للعرب.
جولة بايدن إلى المنطقة، لم تخلو كذلك من "المكايدة" السياسية الحزبية الأمريكية، بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، فأراد كذلك تحقيق "أسبقية" ربما يسعى إليها منذ بداية حقبته، من خلال تغيير ترتيب محطاته مقارنة بجولة ترامب، لتكون إسرائيل المحطة الأولى، وينتقل منها إلى السعودية، فتكون رحلته إلى المملكة هي الأولى من نوعها من حيث قدومها من تل أبيب، وهو ما يمثل أهمية كبيرة بالنسبة لإدارة بايدن، والديمقراطيين عموما، وهو ما يبدو على سبيل المثال في حرصهم الشديد، على تقديم اختيارات هي الأولى من نوعها، ربما أبرزها، تقديم أول امرأة في منصب نائب الرئيس، في عهد الإدارة الحالية، وهي كامالا هاريس، ناهيك عن سلسلة كبيرة من "الأوائل"، في العديد من مناصب الإدارة الحالية، تعكس حالة من النهم فيما يتعلق بالأسبقية.
وهنا يمكننا القول بأن قمة جدة، تمثل محاولة لاستنساخ نهج الرئيس الأمريكي السابق لحشد القوى العربية، ليس فقط لمواجهة الخصوم الدوليين، وإنما امتد الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك عبر الحاجة إلى دعمهم فيما يتعلق بالعديد من الازمات الراهنة، والتي تتجاوز في معظمها الأبعاد السياسية التقليدية، والتي ترتبط بحشد التحالفات والمعسكرات الدولية، إلى أبعاد تحمل في طياتها أبعاد إنسانية حيوية، على غرار قضايا الأمن الغذائي وأمن الطاقة، وهو ما يمثل في جوهره بعدا جديدا في الأهمية التي يحظى بها العرب في ميزان العلاقات الدولية في المرحلة الراهنة، وبالتالي أصبح الدعم الدولي للقضايا العربية ليس مجرد "هبة" تمنحها القوى الدولية الكبرى لحلفائها العرب، وإنما بمثابة "فرض عين" في إطار المستجدات الدولية الراهنة.