"إنك لا تجني من الشوك العنب" هكذا كان المثل العربي القديم واضحاً في وصف فكرة المقدمات والنتائج، أو الزراعة والحصاد، وكيف نحصل دائما على جنى ما نغرس، إلا أن البعض يتصور - البعض هنا كثير- أن بمقدوره شراء الرخيص وبيعه غالياً، واقتناء البالي واعتباره ثمينا قيماً، يبخس الناس أشياءهم، ويعرض بضاعته لأعلي سعر، يعتقد في نفسه الحكمة ورجاحة العقل، ويصف الآخرين بكل ما هو عكس ذلك، لا يعرف إلا لغة المكسب، ويواجه الأزمة من أبوابها الخلفية، يمتص مكاسبها حتى لو كانت على حساب المجتمع، ويظن أنها تجارة وفرصة، ويخرق السفينة من أسفلها ويظن أنها ستعطي الماء بلا غرق مفاجئ، وهذا للأسف حال العديد حولنا في كل المجالات.
أتوقف دائماً عند إبداع اللغة العربية في الفعلين "زرع " و "حصد"، يحملان نفس عدد الأحرف، ونفس البساطة في المعنى والبناء، وهذا ربما دليل على أن كل اجتهاد في الزراعة يعقبه نجاح في الحصاد، وعلى قدر رعاية البذور والعناية بها ساقاً وأوراقاً، تكون الثمار، لذلك أتعجب من أولئك الذين يتعجلون الحصاد دون سعى وتعب، ويظنون أن السكون المؤقت والثبات الخادع سيستمر طويلاً دون تغير.
"الاستمتاع بالعمل يضفي عليه المثالية"، هكذا قال الفيلسوف اليوناني الشهير أرسطو، الذي ربما ذكر تلك العبارة قبل ما يقرب من ألفين و400 عام، إلا أنها مازالت حاضرة ومؤثرة لدرجة تجعلنا نستعيرها بعد كل تلك السنوات، لنتعلم من خلالها قيمة حب العمل، وفكرة الجودة، التي تعتبر ميزان ومعيار حقيقي لمن ينشد التميز والاختلاف والنجاح، فكل من يمارسون أعمالهم على الهامش، وكل من يقبعون في المناطق الدافئة، دون خوض التجربة والبحث عن الجديد والتعلم المستمر، لن يصلوا أبداً إلى الاتقان الذى تحدث عنه أرسطو، وتحدثت عنه الأديان، وفاضت به تجارب العلماء والمفكرين.
لا نطمح في مثالية أرسطو أو ما كان سائداً في ذلك الزمان الذي نضح بالحكمة والعلم على مئات الأجيال عبر عقود طويلة، لكن بات هدفنا أن نقدم عملاً بجودة، حتى وإن كانت النسب متواضعة، في أجواء صارت فيها الجودة الكاملة فكرة نادرة، وفريضة غائبة لا نراها ولا نتعلمها ولا نحاول غرسها في الأجيال الجديدة، التي يجب أن تتعلم أن الاتقان هو المعيار الحاكم للعمل، والصناعة الأهم، التي يجب تنميتها خلال مرحلتي الطفولة والشباب.
لا تنتظر أن نتحرك خطوة واحدة للأمام دون عمل حقيقي وسعي دائم، وهذه مهمة شديدة الصعوبة في مجتمع يعيش ثقافة الزحام بكل صورها وأشكالها، ويعاني من أمراض الفهلوة والحداقة بشكل لا مثيل له، كما أن عامل الوقت ليس في صالحنا على الإطلاق في ظل ظروف عالمية أقل ما توصف بأنها كارثية، وتحتاج إلى ثنائية الوعي والعمل، وهذه الثنائية يجب أن تصل الأفراد قبل المؤسسات، وإلى الريف قبل الحضر والمدينة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة