توفى الموسيقار الكبير محمود الشريف فى 29 يوليو 1990 بعد شهر واحد من نشر آخر حلقة من مذكراته «حياتى ذكريات..لامذكرات» فى مجلة «الشاهد الشهرية -قبرص»، إعداد الشاعر والكاتب محسن الخياط.. واستمر نشرها عاما بواقع حلقة كل شهر.
وتعد هذه المذكرات وثيقة مجهولة أو منسية فتوزيع مجلة الشاهد كان محدودا فى القاهرة رغم أناقتها وإخراجها المبهر، كما أنها توقفت منذ سنوات طويلة، ولأنى كنت عضوا فى هيئة تحريرها من القاهرة، تمكنت من الاحتفاظ بأعدادها ومنها هذه المذكرات، باستثناء عددين تكرم الزميل الكاتب الصحفى محب جميل بتوفيرهما لى عبر المؤرخ اللبنانى «عبودى أبوجودة»، فاكتملت عندى كل المذكرات التى تعد وثيقة فنية وسياسية واجتماعية مهمة.
يذكر «الخياط» أنه ارتبط بعلاقة وطيدة مع «الشريف» منذ آواخر خمسينيات القرن الماضى، وأنهما استغرقا معا فى عمل هذه المذكرات عامين من 1973 إلى 1975، ووجد أمامه «خمسون عاما حافلة بالأحداث الفنية والسياسية لم يكتب لفنان آخر أن يعيشها»..يؤكد: «وجدتنى أمام فنان تمكن وحده أن يقلب الموائد فى وجه العصر ليحدث انقلابا فى تاريخ الأغنية العربية.. وجدتنى أمام سيد درويش آخر، يخرج عن المألوف ويتحدى بألحانه كل من سبقه من الملحنين كبارهم وصغارهم».
تعلم المصارعة فى باكوس بالإسكندرية
يتذكر الشريف حياته من مولده يوم 20 أبريل 1912 فى بيئة دينية رقيقة الحال تجد قوت يومها بالكاد، يذكر أنه ولد فى حارة الحمام حى باكوس رمل الإسكندرية، وكان ترتيبه الخامس بين أولاد الشيخ «حسين إبراهيم أبوعمر الشريف»، إمام مسجد «سيدى محمد العجمى صاحب الشاطئ المشهور بمدينة الإسكندرية، وأخواته هم، أمينة، محمد، إسماعيل، حسن، ثم هو آخر العنقود.. وفى الخامسة من عمره التحق بكتاب الحى ليحفظ القرآن الكريم، ويتعلم مبادئ القراءة والكتابة، وجدول الضرب، وفى السابعة من عمره ترك الكتاب ليلتحق بمدرسة «حجر النوافية»..وفى أثناء عودته من المدرسة كان يتجه إلى أقصى الشمال خلف محطة الظاهرية، حيث يوجد قصر كبير ذو أشجار عالية وحديقة واسعة وأشجار فاكهة متعددة، كان قصر البرنس عمر وكان حديث الناس لأنها تلتف حوله لتستمع إلى الصوت الجميل الصادر من داخله، كان الجميع يقولون إنه صوت مغنية جديدة اسمها «أم كلثوم» تنزل ضيفة على الأمير هى وأبيها.. كنت وأنا فى طريقى إلى البيت، يتبعنى صوتها من بعيد وهى تغنى أغنية جميلة، كلماتها: «أنا على كيفك على كيفك..ما أقدرش أبدا.. ماقدرش.. ماقدرش.. ما قدرش أبدا أخالفك..أنا على كيفك».
يتذكر الشريف والده ،قائلا: «كان أبى شيخا وقورا مهيب الطلعة، حلو القسمات، اشتهر بورعه وكان من مشايخ الطرق الصوفية، هجر مسقط رأسه «البرلس – محافظة كفر الشيخ»، وكان فى السادسة عشرة من عمره، هجرها سيرا على الأقدام، قاصدا مدينة القدس، وهناك فى مسجد الخليل إبراهيم عكف داخل الخلوة سبعة أعوام فى التعبد والتبتل، لا يعرف من أمور الناس شيئا، وذات يوم سمع الناس يتحدثون عن ثورة عرابى، فما كان منه إلا أن أسرع فى العودة إلى بلده، واستأجر مركبا شراعيا، حمل أبويه وجده وجدته، وهم كانوا كل أهله وخاض بهم البحر حتى وصل إلى الإسكندرية، وفيها شاءت المقادير أن يلتقى ببعض المشايخ من بلدياته، من بينهم شيخ مسجد الإمام البوصيرى الذى استضافه وهيأ له عملا فى أحد المساجد، وسعى شيخ مسجد «البوصيرى» لتزويجه من إحدى بنات الإسكندرية، فأصبح صهرا لأسرة أبو إسماعيل التى اشتهرت بتجارة الأقمشة فى حى باكوس».
بالرغم من حياة الوالد القصيرة فى حياة الابن، إلا أنه يؤكد أنه تعلم منه الأمانة والصدق.. ولا ينسى هديته له: «ذات ليلة تلقيت منه أول وآخر هدية، كانت عبارة عن آلة موسيقية قديمة اشتراها من بائع «روبابيكيا»، آلة تشبه آلة القانون، تركية الأصل عرفت فيما بعد أن اسمها «السنتور»، جلست يومها أعبث بأوتارها المشدودة المصنوعة من السلك وأنا لا أدرى لماذا اشترى لى تلك الهدية بالذات.. هل كانت نبوءة بأننى سأعشق الموسيقى وأصبح موسيقيا؟».
يتذكر كيف قضى طفولته بين شقيقين اكتسب منهما، حب الموسيقى، وعنف المواجهة الجسدية.. شقيقه إسماعيل الفارس الجميل عازف آلة «الترامبون» فى فرقة الأمير عمر طوس، علمه مبادئ القراءة والكتابة بالنوتة الموسيقية، وشقيقه الثانى محمد كان فظا شرسا يعاشر الفتوات فتطبع بطباعهم.. يضيف: «عاملنى بقسوة دفعتنى إلى أن أتدرب على لعبة المصارعة وألتحق بنادى الرمل، وفى نفسى رغبة جامحة فى كبح جماح أخى الأكبر، وتمر الأيام وأصبح مصارعا وأحرز بطولات فى وزن الريشة، لكنى لم أتعرض لأخى بسوء».
بالرغم من اختلاف طباع الاثنين، إلا أنهما أصبحا من ضحايا الاحتلال الإنجليزى، إسماعيل أصيب فى ساقه برصاصة أثناء اشتراكه فى مظاهرة كبرى بميدان المنشية ضد الاحتلال، وتركته هذه الإصابة أسير مرض عصبى حتى آخر حياته.. أما محمد فتم القبض عليه بتهمة الاعتداء على أحد «الكونستبلات» الإنجليز المكلفين بمراقبة الرفق بالحيوان..يؤكد: «أدى الحادثان إلى سقوط الأب الذى يبلغ السبعين من العمر صريعا للمرض، وتوفى بعد أسبوع من مرضه تاركا أسرته فى مفترق الطرق، فالابن الأكبر نزيل سجن الحضرة، والثانى يرقد جريحا فى المستشفى العسكرى، ووصل الحال بالأسرة إلى أن تعيش فى حجرة واحدة مظلمة.
كان الشريف فى الحادية عشرة من عمره.. قرر أن يواجه واقعه الجديد المؤلم بالعمل: «تنقلت من صالون حلاقة إلى محل بقالة، إلى ورشة نجارة، حتى استقر بى المقام فى متجر كبير كان صاحبه متعهدا للخاصة الملكية يورد لها اللحوم والفاكهة والخضار، وأطلق أهل الحى على صاحبه لقب «أفندينا»..كان الشريف يقوم بتوصيل الطلبات إلى المنازل بالدراجة..يتذكر: «فى إحدى جولاتى بالدراجة، توقفت عند فيلا لأسلمها ما طلبته من المتجر، كانت تقف فى الشرفة سيدة تدندن بإحدى أغنيات أم كلثوم «إن كنت أسامح وأنس الأسية»..كانت أحدث أغانيها تلحين محمد القصبجى، وكان إلى جوار السيدة سيدة أخرى، عرفت من السفرجى أنها أم كلثوم بدمها ولحمها، والفيلا كانت لعازف العود الشهير «أمين بك المهدى» الذى كانت زوجته واسمها «إقبال» تقف إلى جوار أم كلثوم تدندن باللحن».
حبيبته ثريا بنت أفندينا
أحب «الشريف» ابنة افندينا واسمها «ثريا»، وبفضل هذا الحب أغلق باب رياضة «المصارعة» فى حياته، وعلمته ثريا قراءة الكتب والروايات وعلمته مبادئ العزف على البيانو، وبدأ عشقه للموسيقى، فاشترى آلة عود من الأسطى «بلبع المزين» الهاوى للموسيقى بثمانين قرشا بواقع عشرة قروش كل أسبوع، وكان يعلق عوده فى صالون الحلاقة كشاهد على فشله فى تعلم العزف عليه، وفى هذا الصالون تعلم أول درس على العود، يعلق: «الحقيقة أن معظم أبناء جيلى من الموسيقيين لم يتلقوا دراساتهم فى الموسيقى فى معهد متخصص، فمثل هذا المعهد لم يكن له وجود، والدولة لم تكن تبدى حماسا لافتتاح مثل تلك المعاهد..كان الفن فى ذلك الوقت ترفا، تمارسه الطبقات الراقية، وكان من المفروض أن تجيد فتيات تلك الطبقات بالذات فن العزف على البيانو، مثل اهتمام الأسرة بديكورات المنزل..كانت الفتاة تجيد العزف على البيانو لأنها ليست فى حاجة إلى الأعمال المنزلية وفنون الطبخ التى كان يقوم بها رجال متخصصون..لهذا كان ظهور فنان من أبناء الشعب فى تلك الفترة يعتبر استثناء من القاعدة، فقد علم أساتذتنا أنفسهم بأنفسهم، وجئنا نحن أبناء جيلنا لنسير على نفس الدرب.
يذكر أنه تلقن فن العود على يد عازف العود الشهير آنذاك «جورج طاطيوس» شقيق عازف الكمان الأول فى مصر «يعقوب طاطيوس» الذى كان يعمل فى فرقة محمد عبدالوهاب فى نفس الوقت الذى بدأ فيه التردد على الندوات الأسبوعية الموسيقية بالإسكندرية التى يقبل عليها الهواة والمحترفون وحُفاظ التراث، وتعرف خلالها عليها على أستاذ العود الإسكندرانى الشهير محمد فخرى، وحفظ فيها كل أغانى التراث التى عاشت معه وحددت شخصيته الموسيقية.
غادر الشريف الإسكندرية إلى القاهرة بعد أن قرأ فى مجلة الصباح إعلانا عن قبول طلاب جدد فى أول معهد للموسيقى العربية بالقاهرة، وترك لجنة الامتحان وخرج احتجاجا على عجرفة رئيسها، وكذلك فعل مطرب ناشئ تعرف عليه هو «حسن سلامة»، وعن طريقه تعرف على الحياة الفنية فى القاهرة بشارع عماد الدين ومسرح على الكسار ومسرح الريحانى، ومسرح منيرة المهدية، ثم عاد بعد شهر ونصف إلى الإسكندرية والتحق بفرقة «فوزى الجزايرلى» إحدى الفرق المتجولة التى تعمل فى الإسكندرية للغناء بين الفصول، ثم انتقل إلى العمل مع فرقة أحمد المسيرى، ثم فرقة على لوز، وغيرها من الفرق التى جابت قرى ومدن المحافظات المصرية، ويؤكد أن عمله فيها أفاده فى التعرف على أمهات الأعمال الفنية لكبار الفنانين من أمثال كامل الخلعى وداود حسنى وسيد درويش وربته على الغناء المسرحى، الذى يختلف عن الغناء الفردى الذى كان طابع العصر ومثل قطبيه عبدالوهاب وأم كلثوم.
التحق الشريف بالعمل فى فرقة بديعة مصابنى أواخر عام 1932، وفى عام 1933 جاءته الفرصة ليضع أول لحن له يتذكره: «جاءنى «ابن الليل» أحد مؤلفى الأغانى والمنولوجات فى ذلك الوقت، وقدم لى كلمات أغنية جديدة لأقوم بتلحينها، قلت له: ومن المطرب. قال: إبراهيم حمودة.. انتهيت من اللحن، لكن لم يروقنى «إبراهيم حمودة»، ولم أكن معجبا بصوته ولا بأدائه، كنت آراه وهو يعمل معى فى فرقة بديعة مجرد واجهة تستعرض نفسها هنداما ومظهرا أكثر مما تقدم فنا، كان حريصا على المعجبين بأناقته وهندامه لا المعجبين بفنه، والحقيقة أننى منذ مرت أناملى على العود لأصوغ اللحن كان فى أذنى محمد عبدالمطلب المذهبجى المشهور فى تخت عبدالوهاب، وصاحب الصوت المتفرد، والأداء الخاص الذى بدأ نجمه فى الظهور».. يتذكر، أنه فى الصباح التقى بالمؤلف وسأله عن اللحن، فأبلغه أنه انتهى منه لكنه يشترط أن يغنيه «محمد عبدالمطلب»، أربكت المفاجأة المؤلف وقال إنه قبض عربونا من إبراهيم حمودة خمسة وعشرين قرشا، فأخرج الشريف المبلغ من جيبه وكان كل ما معه، وبالفعل ذهبت الأغنية «بتسألينى بحبك ليه» إلى عبدالمطلب لتحقق نجاحا مذهلا.
ملحن حر
تمرد الشريف على العمل فى الصالات، وقرر العمل كملحن حر، والتحق بفرقة الراقصة «ببا عز الدين» تحت تأثير صديقه محمد عبدالمطلب الذى تزوج من شقيقتها، وأثناء عمله فيها قدم الفنان محمد فوزى القادم من طنطا فى استعراض «بالوما»، وأصبحا صديقين واتخذا مسكنا مشتركا فى القاهرة لسنوات طويلة، وبعد ذلك أخذه المذيع محمد فتحى إلى الإذاعة، وما إن استمعت إليه الجماهير فى البرامج حتى تهافتت عليه شركات الإنتاج السينمائى، فقد كانت الأغنية كالرقص عنصرا أساسيا فى الأفلام، واعتمدت الإذاعة عليه طويلا فى شتى برامجها الغنائية والروائية وكان صاحب أول تجربة إدخال الأوبرا المصرية فى برنامج «روما تحترق» و«روميو وجوليت» اللذين أنتجتهما وأخرجتهما، وكانت هذه التجربة حافزا لعبدالوهاب لتلحين مشاهد مسرحية شوقى «مجنون ليلى» تلحينا أوبراليا.
سافر «الشريف» إلى القدس للعمل فى إذاعتها فى شهر رمضان، وفى الفندق تعرف لأول مرة على المطرب عبدالغنى السيد، وبعد عودتهما غنى له الكثير من الألحان الخالدة، من بينها «وله ياوله» و«ع الحلوة والمرة مش كنا متعاهدين» و تحفته «البيض الأمارة والسمر العذارى»، ولعبدالمطلب: «رمضان جانا، والسبت فات والحد فات، وودع هواك وإنساه من تانى، وبياع الهوى راح فين«، وغنى محمد قنديل «تلات سلامات «ولأحلام «ياعطارين دلونى الصبر فين أراضيه».. وكان كل ذلك يمهد الطريق إلى اللقاء بأم كلثوم الذى شهد دراما إنسانية عميقة.
لماذا تهتم أم كلثوم بى؟
التقى بأم كلثوم فى الاجتماع الأول لمجلس نقابة الموسيقيين بعد صدور القانون رقم 123 لسنة 1944.. كانت أم كلثوم نقيبا بالانتخاب، ومحمود الشريف وكيلا، وفى هذا الاجتماع بدأ السطر الأول فى قصتهما التى فاجأت الجميع، وهزت الأوساط السياسية والفنية، بما فى ذلك الملك فاروق..يذكر، أنه جلس بعد انتهاء الاجتماع على أريكة بالقرب من النافذة..خطت أم كلثوم نحوها وأطلت منها ثم جلست إلى جواره، ودار حديث حول مصيف رأس البر الذى عادت منه قبل أيام.. واقترح عازف الكمان أحمد الحفناوى أن يعزمهم شرط أن يقدم محمد القصبجى تقاسيم على العود، وفوجئ القصبجى بالاقتراح وخيم عليه صمت كئيب، وغيرت أم كلثوم الاقتراح إلى دعوتهم لبيتها.. يتذكر الشريف، أن القصبجى حمل عوده على مضض، لكنه فوجئ بأم كلثوم تضحك وهى تقول له: «سلامتك ياقصب..طب خليك أنت مادام تعبان، ولكن القصبجى انتزع نفسه من على مقعده وهو يقول: أمرى لله أجى أسهر معكم..يعلق الشريف: «كان للقصبجى مع أم كلثوم قصة حب أخرى من طرف واحد تحسها أم كلثوم وسوف يبدو طرف منها فى ثنايا علاقتى بها».
يضيف الشريف: «فى القاعة الكبرى بمنزل أم كلثوم بدأت السهرة وعزف القصبجى أحل مقطوعاته، وغنت أم كلثوم كما لم تغن من قبل، وكانت ليلتها شديدة المرح والجاذبية تلقى بالنكتة وتغنى وكأنها ابنة 16 ربيعا.. امتدت السهرة حتى مطلع الفجر، قمت إلى شرفتها المطلة على النيل اتنسم بعض الهواء البارد..أحسست بيدها تربت على كتفى التفت إليها، اقتربت منى وهمست فى أذنى: «أنت تتغدى معايا بكرة هنا فى البيت».
طرح الشريف على نفسه سؤالا: «ما سر اهتمام أم كلثوم بى؟..يجيب: «قد يكون لأنى المشاكس الدائم فى مجلس النقابة، وهى تريد بكرمها وحسن استقبالها لى أن تلوى ذراع هذا المشاكس وتطويه تحت إبطها.. أو لأنى أحد أصدقاء الموسيقار محمد عبدالوهاب فى وقت كانت تتصارع فيه القمتان فظنت أنى مجرد أحد رجال الموسيقار الكبير الذين يروجون لفنه بمناسبة وبدون مناسبة».
يضيف: «مع تطور علاقتى بها أدركت أننى لا أدور فى فلك أحد، ولا أعيش على بقايا موائد عالم الموسيقى والتلحين، وأكثر ما أدركته معاناتى النفسية، طموحاتى، استقلال شخصيتى الفنية..استمعت إلى ألحانى فى جلسات متكررة ورددتها معى بصوتها الملائكى.. كانت أم كلثوم الفنانة تبهرنى كما بهرت جميع الفنانين والمستمعين، جمالها فى جاذبيتها، فى ذكائها فى حضور بديهتها.. كانت عالما قائما فى ذاته، ملأت على مشاعرى بإحساسها المرهف وتواضعها وبساطتها وهى بعيدة عن جلسات الصالونات وسهرات الباشوات».
يضيف الشريف: «أصبح لقاؤنا شيئا ملموسا أدركه الكثير من أعضاء النقابة، اعتادت قدماى على فيلا أم كلثوم، أحيانا أكون ضيفا على الغذاء أو ضيف سهرتها الوحيد.. كل منا يفرغ ما فى جعبته من أسرار ويتسابق كل منا فى أن يفتح قلبه للآخر، حتى أننا كنا نتشاجر كالأطفال حول من يحكى قصته قبل الآخر..عرفت كل شىء عنى.. تعرفت على أسرتى..أمى وأختى وأخى حسن، وزوجتى فاطمة وكانت تعرف مأساة حياتى معها التى تمثلت فى مرضها العضال.. أرادت أن تلتقى بفتى من وسطها، تعاقب على طلب يدها الوزراء والصحفيون والأغنياء العرب ورفضتهم جميعا، وقبلت أن تمنح قلبها لفنان من وسطها من طبقتها يقدر فيها الإنسانة والفنانة معا».. يضيف: «فى ليلة رأس السنة الهجرية وضعت دبلة الخطوبة فى يد أم كلثوم، ونقشت عليها: «لا إله إلا الله» وعلى دبلتها «محمد رسول الله»، ورنت أول زغرودة فى فيلا أم كلثوم..تكتمنا على الخبر، إلا أنه تسرب إلى دار أخبار اليوم».
يتذكر الشريف: «فى اليوم الثانى من الخطوبة انفرد مصطفى أمين بالخبر فى «أخبار اليوم»..كتب: «منذ أسبوعين شعر كل منهما بأنه مصمم على الزواج ، فقال لها: ما رأيك ؟.فقبلت فى الحال من دون تردد، ولم تستشر أحدا، ولم تقل دعنى أفكر..وتم عقد القران.
الملك فاروق يأمر بعدم زواجه من كوكب الشرق
لم تدم الخطوبة كثيرا..يتذكر الشريف دراما الفراق: «بعد أن نشرت أخبار اليوم الخبر، جاء الكاتب الصحفى مصطفى أمين يقول لأم كلثوم إن الملك فاروق غير راض عن تلك الخطوبة..أجهشت بالبكاء، وبادرت مصطفى أمين بقولي:
«دى خطيبتى أمام الله والرسول والناس.. ماله الملك ومالنا.. رد قائلا: أحسن لك تنفيذ الرغبة الملكية..قلت بتحد:
«مافيش حد يقدر يفرق بينى وبين خطيبتى» يضيف الشريف: «جففت أم كلثوم دموعها، وقالت موجهة كلامها إلى:
أمرنا لله يامحمود مافيش نصيب..لازم تنفذ الأمر».. سألها: «ليه ياثومة ؟»..أجابت: «أنا خايفة عليك»..سألها:
من إيه؟..أجابت:أحسن يقتلوك.. سألها: يقتلونى إزاى..أجابت: زى ماقتلوا الضابط بتاع رأس البر».. توجه الشريف بسؤال لمصطفى أمين: إيه حكاية الضابط ده؟..رد: «دى حكاية تانية مش موضوعنا دلوقتى».
انتهت القصة، لكنها آثارها الحزينة كانت عميقة على الاثنين.. يذكر الشريف: «التزمت الصمت وكذلك فعلت هى، وحدث الشىء عينه عندما كتبت «أخبار اليوم» أن أم كلثوم فسخت الخطبة عندما علمت أن لى زوجة أخرى لم تكن تعلم عنها شيئا، لم أعلق بكلمة، ولم ترد أم كلثوم على الرغم من علمها بالحقيقة كاملة، آثرت هى أن تحنى رأسها إلى أن تمر العاصفة».. يضيف: «بعد فسخ الخطبة بأشهر أصيبت بجحوظ فى عينيها نتيجة نشاط متزايد فى الغدة الدرقية، وتحكى إحدى صديقاتها الأثيرات سميرة أباظة أن أم كلثوم كانت تتنزه على شاطىء النيل فى الزمالك وكادت تقذف بنفسها فى النيل، لكن قريبتها سنية التى كانت برفقتها هرولت إليها وعادت بها إلى المنزل».
يضيف: «كأن الدنيا انقلبت حين تزوج فنان بفنانة، ولم تنقلب حينما كانوا يساومون من أجل بيع مصر كلها للأجنبى..استقرت كل تلك الأفكار فى نفسى وتأكد لى سخف الأغانى التى كانت تردد اسم الملك فاروق بالحب والإجلال والتكريم، بينما الجماهير تهتف بسقوطه فى شوارع القاهرة والإسكندرية، وتكشف لى أن الجماهير كانت فى طريق والقادة والمغنيين كانوا فى طريق آخر، وقبل قيام ثورة يوليو 1952 بسنوات وجدتنى أختار كلمات ذات مغزى خاص لألحنها، رددتها كل جماهير الشعب من الاسكندرية إلى أسوان، وعشقتها كأنها أغنية عاطفية، ولكنها لم تكن كذلك، كانت تعبيرا صادقا عن معاناة الشعب وعن مدى صبره على كل المهازل التى ترتكب باسمه.. كنت أرددها بعشق خاص، وحفرت فى نفسى مجرى معاديا لكل ماهو ملكى، وكل ما يصدر عن القصر..كانت الأغنية تقول:
ياعطارين دلونى /الصبر فين أراضيه /ولوطلبتوا عيونى خدوها بس ألاقيه».. يضيف الشريف: «كانت الأغنية تعبيرا صادقا عن نفاد الصبر والتوق إلى التغيير الذى كنا جميعا فى انتظار حدوثه..وكانت التظاهرات التى ملأت الشوارع طوال السنوات السابقة للثورة تنبئ بشىء ما لابد أن يحدث، وقد حدث بالفعل فى 23 يوليو 1952.
p
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة