المشهد الأمريكي الأخير في آسيا، عندما نزلت نانسي بيلوسي إلى مطار تايبيه في حالة من الظلام الدامس، تعكس قلقا أمنيا، ربما لا يقتصر في تداعياته تأمين المسؤولة الأمريكية الكبيرة، وإنما يتجاوزها بعيدا عن الحالة التايوانية الفردية، وتداعيات تلك الزيارة عليها، أو حتى الإطار الثنائي، إثر التوتر الكبير في العلاقة مع الصين، وإنما تمتد إلى نطاق إقليمي أوسع، يتسع إلى قارة آسيا بأسرها، في ظل ما قد تؤدي إليه حرب محتملة بين الصين وتايوان، تزامنا مع معركة أخرى في أوكرانيا، دفعت العالم نحو أزمات كبيرة في قطاعي الطاقة والغذاء، ناهيك عن عدم قدرة العالم، وفي القلب منه القارة الصفراء، عن تجاوز التأثيرات العميقة التي تركتها الجائحة في السنوات الأخيرة، حتى الآن.
ولعل المشهد الآسيوي، والذي يتسم بقدر كبير من الضبابية، ليس مختلفا كثيرا عن كافة مناطق العالم الأخرى، إلا أنه ربما ساهم بصورة كبيرة في إبراز الحاجة الكبيرة للقارة، إلى كيان إقليمي جامع، من شأنه توحيد المواقف القارية في المرحلة الراهنة، خاصة إذا ما تحولت أراضيها إلى أحد مناطق الصراع المباشر بين الغرب بقيادة واشنطن، والتحالف الروسي الصيني، وبالتالي صياغة مواقف من شأنها الدخول "الجماعي" المباشر على خط الأزمة، للدفاع، أو بالأحرى حماية، مصالح كافة الدول، في مواجهة ليس فقط أثار الصراع العسكري، وإنما أيضا للتخفيف من حدة الاستقطاب الذى قد تشهده القوى الرئيسية بالقارة، وتأثير ذلك على أزماتها التي لم تجد حلولا منذ عقود، على غرار الأزمة الكورية الشمالية، والأوضاع في إيران، وغيرها.
وعلى الرغم من غياب كيان جامع للقارة بأكملها، بسبب مساحتها الشاسعة كأكبر قارات العالم، إلا أن ثمة منظمات إقليمية صغيرة، من حيث أعداد أعضائها، ولها تأثيرات كبيرة، على غرار رابطة دول جنوب شرق آسيا "آسيان"، والتي تمثل أحد أهم المنظمات الاقتصادية في العالم في ظل معطيات أهمها ثقل أعضائها على المستوى الاقتصادي، وتركيزها بصورة كبيرة على قضايا التنمية الاقتصادية، وهو الأمر الذي دفع قطاع كبير من دول العالم على التعاون معها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، والعديد من دول أوروبا الغربية، في ظل الرغبة العارمة في تحقيق أكبر قدر من المكاسب من خلال التعاون معها.
يبدو أن المنظمة الآسيوية، تعد بمثابة نواة هامة، لتحقيق مزيد من التنسيق، بين الدول الآسيوية، خاصة وأنها مؤهلة بصورة كبيرة للتوسع، وتجاوز منطقتها الجغرافية التي تأسست عليها، وهو ما يتجلى بوضوح في اهتمام العديد من الدول حول العالم إلى الانضمام إلى معاهدة الصداقة والتعاون في جنوب شرق آسيا، وهي المعاهدة التي تهدف في الأساس إلى تعزيز التعاون مع المحيطين الدولي والإقليمي للمنظمة، حتى وصل عدد أعضاء المعاهدة إلى 49 دولة، لا تقتصر على الدول الآسيوية، وإنما تمتد إلى أوروبا والولايات المتحدة، ربما كان أخرها انضمام 6 دول دفعة واحدة أوائل هذا الشهر.
الاهتمام الكبير بـ"آسيان" تجلى في العديد من المشاهد، ربما أبرزها حرص وزير الخارجية الصيني على عقد محادثات مع نظرائه من دول الرابطة في أعقاب زيارة بيلوسي المثيرة للجدل، في انعكاس صريح لما تحظى به المنظمة من أهمية كبيرة، على المستوى الدولي، وقدرتها الكبيرة على حشد دول القارة، وبالتالي تبني مواقف معتدلة تجاه الصراعات الدولية الراهنة، بينما تمثل المنظمة أهمية كبيرة كذلك للجانب الأمريكي في ضوء تركيزها على تطويق بكين، وهو ما بدا في استضافة قمة لزعماء ثماني دول أعضاء بالمنظمة في شهر مايو الماضي.
وهنا تصبح المنظمة محلا للاستقطاب الدولي والإقليمي، وهو الأمر الذي لا يبدو جديدا على إطلاقه، وإنما بات يحمل زخما كبيرا وغير مسبوق في الأشهر الماضية، وهو ما يمثل فرصة جيدة لترجمة هذا الاهتمام لتوسيع نطاق عمل "الآسيان" لتكون غطاءً آسيويا على شاكلة "الاتحادات" القارية الأخرى، وهو الأمر الذي ربما تكون المساحة الكبيرة للقارة، والزيادة الكبيرة في أعداد دولها، أحد أهم التحديات لتحقيقه على الأرض، إلا أنه يمكن على الأقل توسيع نطاقها الجغرافي، لتشمل مساحات أوسع من آسيا، مع التركيز على القوى الفاعلة بها، حتى يمكنها تبنى مواقف متجانسة ومنسجمة حال نشوب أية نزاعات في المستقبل القريب، خاصة بعد الارتباك الناجم عن الأوضاع الدولية الراهنة.