أوفد الرئيس العراقى أحمد حسن البكر مبعوثه الخاص مرتضى الحديثى، وزير العمل، إلى القاهرة، حاملا خطاب إلى الرئيس جمال عبدالناصر، واستلم الدكتور حسن صبرى الخولى الخطاب، ثم انتظر «الحديثى» ليتسلم ردا مكتوبا من «عبدالناصر»، حسبما تذكر «الأهرام» فى عددها 3 أغسطس، مثل هذا اليوم، 1970.
تناول خطاب «البكر»، «ورد عبدالناصر» الموقف من قبول مصر «مبادرة روجرز»، وهى المبادرة الأمريكية، التى تقدم بها وزير الخارجية الأمريكية وليام روجرز، وبمقتضاها توقف إطلاق النار على جبهات القتال بين مصر وإسرائيل مدة ثلاثة أشهر، تمهيدا لإجراء مفاوضات للتسوية، غير أن أطرافا عربية رفضت المبادرة، وشنت هجوما ضاريا على مصر، وكان حزب البعث العراقى يتزعم هذه الأطراف، وأقام المظاهرات فى شوارع بغداد ضد مصر وعبدالناصر.
نشرت الأهرام، يوم 3 أغسطس، رد عبدالناصر حرفيا، ولم تنشر خطاب البكر، مبررة بأنها «تُحرج، وتترك ذلك للسلطات العراقية، باعتبار أنه من حقها نشره إذا أرادت»، وبعد المقدمة، قال عبدالناصر فى رده: «لست الآن هنا بصدد شرح الدوافع، التى حدت بالجمهورية العربية المتحدة إلى قبول مقترحات الولايات المتحدة، التى لم تجئ نتيجة لتبرع أوتطوع من جانبها، وإنما نتيجة تغييرات حقيقية فى الأوضاع السياسية والعسكرية والدولية، التى تحيط بأزمة الشرق الأوسط، وهذه الدوافع سبق وشرحتها فى خطابى أمام المؤتمر القومى للاتحاد الاشتراكى العربى يوم 23 يوليو 1970، وعدت إليها تفصيلا فى مناقشة مفتوحة دارت أمام أوسع الجماهير العربية».
أبدى عبدالناصر بعد ذلك ملاحظاته، ومنها ما جرى من مناقشات فى مؤتمر رؤساء دول المواجهة، الذى انعقد فى طرابلس بليبيا يومى 21 و22 يونيو 1970، قائلا: «إذا كنا فى طرابلس لم نتشاور مع سيادتكم فى هذا الأمر، فإن هدفنا كان إبقاء تحركنا إلى آخر لحظة، لكى يستطيع أن يحدث ما توقعنا له أن يحدث من خلل فى توازن موقف العدو، وذلك حدث بالفعل، وتستطيعون الحكم عليه بنظرة نحو ما يجرى الآن فى إسرائيل».. يضيف: «إن ما تحدثنا فيه خلال اجتماعنا فى طرابلس كان بالغ الأهمية، ولكن التجارب علمتنا أن العبرة ليست بما يقال فى المحافل، ولكن بما يجرى تنفيذه على الواقع، وحين تلوح أمامنا فرصة للتحرك، فإننا لا نملك حق التخاذل عنها، خصوصا أن هناك أجزاء كبيرة من الأرض العربية تتعرض لمهانة الاحتلال، كما أن مئات الألوف من أبناء أمتنا العربية يرغمون على العيش تحت وطأته، كذلك فإن هناك عشرات الشهداء الأبطال يسقطون فى صفوفنا كل يوم، وإذا كان فى إمكاننا تخليص القدس العربية وغزة والضفة الغربية والمرتفعات السورية وسيناء من المحنة الرهيبة، التى تعيش فيها الآن، فلست أدرى لماذا لا نتحرك؟».
يواصل عبدالناصر فى رده: «أضيف إلى ذلك وأضغط على ما أقوله، لألفت نظر سيادتكم إليه، أن أى تحرك قمنا به لا يتعارض إطلاقا مع أى أهداف وضعناها للبحث فى طرابلس أو فى غير طرابلس، إذا ما توافرت لذلك القوة المناسبة والإخلاص الضرورى، وحجم التضحيات المطلوبة. إن الشعب المصرى لم يمارس ترف النضال من فوق منابر الخطابة أو من دهاليز المناورات السياسية، وإنما مارس دوره فى وضح النهار وتحت النور، وفى ميادين الخطر بكل أعبائه ومشاقه المادية والمعنوية، وكان وسوف يكون طليعة قوى التحرر، لقد أوضحت دائما وبما فيه الكفاية موقفنا القومى والتزامنا المبدئى، ولست أرى أننا نستطيع أن نبنى مستقبل أمة، وأن نصون حرية هذه الأمة بالكلمات، ولم يكن فى استطاعتى أن نترك فرصة للتحرك تلوح أمامنا، انتظارا لأفكار لم تتبلور بعد، ولم تتحدد وسائل تنفيذها، ولم يتم دليل على أن القائلين بها على استعداد لتدعيم ما يقولونه بالتنفيذ العملى لالتزاماتهم».
يضيف عبدالناصر: «لقد دهشت إلى حد كبير من المسيرة، التى نظمتها السلطات العراقية، سواء كانت رسمية أو حزبية ضد الجمهورية العربية المتحدة، وأقول ذلك صراحة، لأننى تعودت ألا أدارى أوأدور حول الأشياء، ولم يكن لهذه المسيرة أن تتم بالطريقة التى تمت بها، أو بالإعلان الواسع الذى جرى عنها، لو لم يكن ذلك موقفا رسميا وحزبيا، وكنت أتمنى لو أن الجهد الذى بذل لتنظيم هذه المسيرة أو الإعلان عنها، وجه إلى ما هو أجدى منها، بتوجيه طائرة تقصف مواقع للعدو، أو تعزيز فاعلية الجيش العراقى على الجبهة الشرقية ضده، ولست أخفى على سيادتكم أننى أحيانا أتساءل: لماذا لم تتلق قواتكم على الجبهة فى أى وقت أمرا بالاشتباك مع العدو، لماذا لم تقم طائرة من طائراتكم بالإغارة على مواقعه.. لماذا لا يوجه العدو اشتباكاته نحو قواتكم؟ ولماذا لم يوجه طائراته نحوها؟.. إن تركيز العدو كله على الجبهة المصرية، والنار ضد العدو كلها من الجبهة المصرية، وذلك شرف نعتز به، ونعتبره شهادة لنا عن إدراك عميق بأنه ليس بالشعارات وحدها تدور الحرب وتتم معارك التحرير».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة