خلق مساحات مشتركة.. شعار يتبناه "الحوار الوطني"، الذي انطلق في الأسابيع الماضية، بناء على مبادرة أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي، في أبريل الماضي، هو ما يعكس الهدف الرئيسي من الخطوة الهامة، والذي يتجسد في تحقيق أكبر قدر من التوافق، بين القوى السياسية، والمنظمات العاملة في مجال المجتمع المدني وحقوق الإنسان، وكافة المشاركين، من مختلف الفئات المجتمعية، في ظل العديد من الأزمات التي يشهدها العالم، وفي القلب منه مصر، سواء إثر التداعيات الكبيرة لجائحة كورونا، أو بعد ذلك الأزمة الأوكرانية، ناهيك عن التحديات المقبلة على خلفية ظاهرة التغيرات المناخية، وغيرها، وهو ما يحتم ضرورة العمل الجماعي لإيجاد حلول جذرية، عبر التركيز على مناطق المشتركات، مع تنحية الخلافات.
ولعل النهج القائم على فكرة "المساحات المشتركة" يمثل أحد أهم محاور السياسة المصرية، منذ لحظة انطلاق "الجمهورية الجديدة"، حيث اعتمدته، على مسارين، أحدهما في الداخل، عبر التوافق مع كافة الفئات المجتمعية، وعلى رأسهم الشباب والمرأة، وذوى الهمم وغيرهم وإشراكهم في حوارات متعددة وحقيقية مع الدولة، بينما كان الأخر دبلوماسيا، عبر التركيز على فكرة المصالح المتبادلة، وتنحية الخلافات جانبا، وهو ما بدا في التعامل مع كافة أطراف المحيط الدولي، بدءً من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، ومرورا بالنطاق القاري، عبر التقارب مع كافة دول إفريقيا، وتبني قضاياها في المحافل الدولية، وحتى العمق الإقليمي في الشرق الأوسط، عبر تحالفات صغيرة، تتوسع تدريجيا، لتتجاوز الخلافات البينية، وتنتصر لـ"المساحات المشتركة".
وهنا يصبح العمل على خلق المساحات المشتركة، بمثابة نهج متكامل تعتمد عليه الدولة المصرية في إدارة الشأن الداخلي، سواء فيما يتعلق بكافة القوى السياسية، أو المنظمات أو الفئات المجتمعية، من جانب، بالإضافة كذلك إلى إدارة علاقاتها الدولية، من جانب أخر، وهو ما يساهم في نهاية المطاف في مواجهة الأزمات، وتحقيق المصالح المشتركة، لكافة أطراف المعادلة السياسية في الداخل، أو الخارج.
المفهوم الذي تتبناه الدولة المصرية في إدارة ملفاتها السياسية، يعتمد على مفهوم "الشراكة"، والذي يقوم في الأساس على التعاون بين القوى الفاعلة، سواء في المجتمع الداخلي أو الدولي، لمواجهة الأزمات، في ظل حقيقة مفادها أن أزمات الخارج ترتبط فعليا بالأوضاع في الداخل، بينما يبقى من المستحيل الاعتماد على قوى بمفردها لتجاوزها، وبالتالي فالحاجة تبقى ملحة للمشاركة بين جميع الأطراف الفاعلة، وهو ما يساهم في تخفيض درجة "الصراع" فيما بينهم، والذي يمثل في جوهره أحد أساسيات العمل السياسي، إلى حالة من "التنافس" تصب في النهاية في كفة المصلحة العامة، سواء للمجتمع الداخلي، إذا ما تحركت مختلف القوى إلى تطوير رؤيتها وخطابها السياسي، ونجحت في تقديم حلول فعالة، من شأنها الخروج من الأزمات المتلاحقة، من جانب، أو على المستوى الإقليمي، عبر التحرك الجماعي نحو تحقيق التنمية من خلال التعاون والاستفادة من مقدرات كل دولة، وتعميم التجارب الناجحة، على كافة المستويات، سواء الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية أو غيرها.
التحول من "الصراع" إلى المنافسة يمثل منعطفا مهما في السياسات التي تتبناها مصر في الداخل، عبر إشراك القوى المتنافسة في مائدة واحدة للحوار، حول التحديات، وبالتالي القيام بدور قيادي مسؤول، في إطار من "الشراكة" التي تتبناها "الجمهورية الجديدة"، كما أنها تمثل فرصة لكل طرف من أطراف المعادلة السياسية لتقديم نفسه كـ"فاعل" حقيقي لديه رؤية حول الكيفية التي يمكن بها تجاوز الأزمات، بينما يبقى، في الوقت نفسه، بمثابة نهج إقليمي، من شأنه تخفيف وتيرة التوتر التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط، كما أنها تمثل فرصة جيدة للغاية لكافة القوى الإقليمية الفاعلة، لتقديم نفسها كقيادة، في إطار حالة من التعددية باتت تشهدها المنطقة، وهو ما يتواكب مع الحالة الدولية بصورتها الجمعية مع صعود قوى يمكنها مزاحمة القيادة الأمريكية للعالم.
وهنا يمكننا القول بأن التحرك المصري، سواء في الداخل أو على المستوى الإقليمي، يبدو متواكبا ومنسجما مع معطيات المرحلة الراهنة، في ظل التداخل الواضح بين الأزمات العالمية، وارتباطها الصريح بالأوضاع في الداخل، وبالتالي تبقى الحاجة ملحة للعمل الجماعي على كافة الأصعدة، مما يساهم في تقديم حلول حقيقية، بالإضافة إلى كونه نهجا فعالا في تحقيق الاستقرار على المستوى المجتمعي في الداخل أو على المستوى الإقليمي.