إفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية.. أسواق حددها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتكون لها الأولوية في تصدير المنتجات الزراعية والأسمدة، وذلك خلال اتصال هاتفي مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، في ظل الأزمة الراهنة، والناجمة عن الصراع المحتدم في أوكرانيا، والذي يدفع بقوة نحو أزمة غذاء عالمية، سوف تطال، حال استمرارها دون حل، دول العالم المتقدم والنامي على حد سواء، وهو ما بدت ملامحه في موجات التضخم العاتية، والغلاء الكبير في أسعار السلع الغذائية، إن توفرت، في دول أوروبا الغربية، في مؤشرات صريحة للأوضاع الدولية الحالية، والتي لم تعد تقتصر على أزمات السياسة المحدودة من حيث الزمن والجغرافيا، وانما تحمل في طياتها امتدادات ربما غير محسوبة أو يمكن التنبؤ بها في المستقبل.
كلمات بوتين، ربما تمثل امتدادا لمواقف موسكو في ملف الطاقة، والذي بدا في قرارات متواترة لتقليل كميات الغاز التي يتم توريدها إلى دول القارة العجوز، قبل موسم الشتاء، وبالتالي يمكن اعتبارها محاولة أخرى لتصدير مزيد من الأزمات للخصوم التاريخيين، وذلك بعد سلسلة من العقوبات التي فرضتها سواء عبر الاتحاد الأوروبي أو دول القارة على روسيا، منذ اندلاع الأزمة، وبدء العملية العسكرية في فبراير الماضي، إلا أن رؤية الكرملين ربما تتجاوز النطاق الضيق للثأر، من أوروبا العجوز، إلى ما هو أبعد من ذلك عبر تغيير مجرى الصراع، أو بالأحرى التحالفات الدولية برمتها، في المرحلة المقبلة، في إطار تغيير واسع النطاق في المشهد الدولي، والتحول نحو عالم متعدد الأقطاب، بعيدا عن الهيمنة الأحادية التي سادت العالم منذ بداية التسعينات من القرن الماضي، وانهيار الاتحاد السوفيتي.
الرؤية الروسية، التي ترجمتها كلمات بوتين، تمثل امتدادا للرؤية التي سبقته إليه الصين، والتي تقوم في الأساس من تحويل وجهة الصراع الدولي، من شكله التقليدي، القائم على الايديولوجيات (بين الرأسمالية والشيوعية) تارة أو صراع الحضارات (بين الحضارة الغربية والإسلامية) تارة أخرى، إلى صراع قائم على ما يمكننا تسميته "الطبقية الدولية"، من خلال استقطاب معسكر جديد من الدول النامية، يمكنه مجابهة السياسات الغربية التي طالما استهدفتهم لسنوات طويلة، عبر استنزاف مواردهم، لتحقيق أكبر قدر من التنمية، في إطار سياسات اتسمت بشراستها حرمتهم من تحقيق التنمية لسنوات طويلة.
ولعل الجانب الصيني كان سباقا في توجهه نحو استقطاب المعسكر الجديد، عندما وضعت بكين نفسها في موقع المدافع الأول عن الدول النامية منذ عدة سنوات، عبر ملتقيات عدة لتعزيز التعاون، سواء مع الدول العربية أو الإفريقية بل وامتدت نحو المحيط الجغرافي للولايات المتحدة، من خلال التقارب مع دول أمريكا اللاتينية، وهو ما ساهم في طفرة كبيرة في شعبيتها على المستوى الدولي، لتمنحها صبغة شرعية، ونفوذا دوليا ممتدا، لمزاحمة واشنطن على قمة النظام الدولي، إلى جانب إمكاناتها الاقتصادية الكبيرة، وقدرتها على اختراق كافة أسواق العالم.
وتمثل الرؤية الروسية الصينية، حال نجاحها، انتصارا مهما على الغرب، حيث تصبح صياغة شكل الصراع الدولي، لأول مرة، قادمة من خصوم الولايات المتحدة، على عكس كافة الصراعات السابقة، منذ الحرب العالمية الثانية، التي نظرت وخططت لها واشنطن، قبل اندلاعها، وبالتالي فكانت هي الأقدر على إدارتها، لتحتفظ في نهاية المطاف بموقعها في القيادة الدولية، على مدار عقود طويله من الزمن.
ويعد بزوغ العديد من القضايا الدولية الأخرى، وعلى رأسها التغيرات المناخية، تعزيزا مهما لتلك الرؤية، حيث تبقى الخلافات الكبيرة بين الدول المتقدمة والنامية، حول الالتزام بتخفيض الانبعاثات الكربونية، وتراجع بعض الدول عن جزء أو قدر كبير من التزاماتها، على غرار الانسحاب الامريكي من اتفاقية باريس خلال حقبة إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب قبل العودة لها مجددا مع قدوم الادارة الحالية، وكذلك قرارات بعض الدول الأوروبية العودة إلى الفحم، من شأنه تأجيج حالة "الطبقية" في المجتمع الدولي، وبالتالي استنفار حالة من "الثورة" الدولية تصب بطبيعة الحال في كفة القوى الجديدة الصاعدة.
ومن الملفت أن الدولة المصرية قد دقت جرس إنذار مهم عبر المناداة المستمرة بحق الدول النامية، وفي القلب منها إفريقيا، في تحقيق التنمية الاقتصادية، عبر دعمها من قبل القوى الدولية الكبرى، وهو ما يعكس رؤية عميقة لواقع النظام الجديد، ومخاوف مرتبطة بشكل الصراع الدولي الجديد.
وهنا يمكننا القول بأن حالة "الطبقية الدولية" تمثل محاولة كبيرة في استنفار حالة من الثورة الدولية، في مواجهة القوى الحاكمة على قمة النظام الدولي، وبالتالي نزع قدر من شرعيتها، لصالح القوى الجديدة الصاعدة بقوة، وهو ما يفتح الباب على مراعيه أمام حالة دولية متعددة، وإنهاء الهيمنة الاحادية.