كانت الساعة الحادية عشرة صباح 27 سبتمبر، مثل هذا اليوم 1970، حين وصل العاهل الأردنى الملك حسين إلى مطار القاهرة، بعد الموافقة على حضوره من الملوك والرؤساء العرب المجتمعين منذ 22 سبتمبر 1970، لوقف القتال بين الجيش الأردنى والمقاومة الفلسطينية بالأردن، وفقا لعبدالمجيد فريد فى كتابه «من محاضر اجتماعات عبدالناصر الدولية والعربية 1967-1970»، مضيفا: «توجه جمال عبدالناصر لمقابلة الملك حسين، ولو أن الرئيس الليبى معمر القذافى كان معترضا، لكن عبدالناصر أصر على استقباله شخصيا عملا بتقاليد الضيافة العربية لكونه صاحب الدار».
كان «فريد» شاهدا على اجتماعات القمة بوصفه أمين عام رئاسة الجمهورية فى مصر، ويذكر أن الملوك والرؤساء اجتمعوا فى الساعة الواحدة ظهر 27 سبتمبر بحضور الملك حسين وياسر عرفات رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، بعد نجاح الفريق محمد أحمد صادق رئيس أركان الجيش المصرى فى الخروج به سرا من الأردن للقاهرة، ويكشف أن الملوك والرؤساء طلبوا أن يقتصر الاجتماع عليهم فقط، ثم طلب عبدالناصر منه «فريد» البقاء لمتابعة الحوار وما يصدر من قرارات.
يكشف «فريد»: «كان الحوار ساخنا، وتعرض الملك حسين خلاله لعبارات جارحة خاصة من ياسر عرفات، وحاول العاهل السعودى الملك فيصل تهدئة جو المناقشات، فطلب تسليم المسدسات التى يحملها كل منهما إلىّ، حتى لا ينتقل تبادل إطلاق النيران من الأردن إلى الهيلتون».. يضيف: بعد أكثر من خمس ساعات توصلوا إلى اتفاق ينص على:
أولا: إيقاف النيران فورا فى جميع الساحات.. ثانيا: انسحاب الجيش الأردنى وأفراد المقاومة من كل المدن قبل مغرب اليوم ذاته.. ثالثا: تكليف لجنة برئاسة الباهى الأدغم ممثل الرئيس التونسى بالسفر للأردن غدا «28 سبتمبر» لمتابعة تنفيذ الاتفاق.
يذكر فريد: «فى الساعة التاسعة مساء انعقدت جلسة علنية فى نفس القاعة للتوقيع على الاتفاقية».. يتذكر فريد: «خرج عبدالناصر من القاعة فرحا مسرورا يقهقه بصوت عال فى حديث مرح مع بعض زملائه أعضاء المؤتمر، وتوجه إلى جناحه فى الدور الثالث عشر بالفندق، وبقى نحو ساعة مع الوفد المصرى، وتبادل الحديث مع زملائه، أنور السادات، وحسين الشافعى وعلى صبرى، كما اتفق مع وزير الإعلام محمد حسنين هيكل على خطة الإعلام حول الاتفاق، ثم جلس بجوار الراديو الذى كان يلازمه يحاول التقاط ما تقوله الإذاعات العالمية بعد توقيع الاتفاقية».
يؤكد «فريد»: «قبل أن يغادر عبدالناصر جناحه خرج للشرفة، حيث أطل على نهر النيل وهو ينساب ليلا بين القاهرة والجيزة، وعلى ضفافه تتلألأ أنوار القاهرة والجيزة، كنت واقفا بجواره فرأيت عينيه تبتسمان يملأهما الإعجاب والافتخار بهذا البلد الجميل، ثم نظر لى وقال: هذه أول مرة فى حياتى أرى فيها هذا المنظر البديع، الواحد فى منشية البكرى «حيث كان يقيم فى منزل متواضع» بالنسبة لهذا المكان ميت ومش عايش.. هل يصح يا عبدالمجيد ألا أرى جمال القاهرة إلا هذه الليلة فقط».
يتذكر فريد: «كان عبدالناصر لطيفا وسعيدا، ورغم ابتساماته، إلا أننى كنت أدرك تماما أنه تعرض فى الأيام السبعة الأخيرة إلى جهد عصبى ونفسى لا يتحمله بشر.. لم ينم فى تلك الليالى إلا بعد الثالثة، وأحيانا الخامسة صباحا ليبدأ لقاءاته فى التاسعة من صباح اليوم التالى.. تحدث معى عندما كنت المصرى الوحيد معه أثناء الاجتماع المغلق للملوك والرؤساء، خلال الاستراحات التى كان يطلبها لكى يتمشى 5 دقائق كل ساعتين، وذلك عندما اشتد عليه الألم من أعصاب ساقيه الملتهبة نتيجة الجلوس ساكنا لساعات طويلة.. شعرت من حديثه أنه يحمل نفسه مسؤولية الأحداث الجسيمة التى جرت فى الأردن، قائلا: لولا هزيمة 67 لما حدث ما جرى فى عمان، ولولا تلك الهزيمة لما قتل الآلاف من الأبرياء والأطفال، حاولت أن أغير الموضوع وأخفف من الأحداث أو أن أنكر مسؤوليته الشخصية، ولكن حساب النفس وصوت الضمير كان أقسى عليه بكثير من كلماتى».
يذكر فريد: «فى الساعة العاشرة مساء، غادر الفندق متوجها للمطار لتوديع معمر القذافى، وقبل أن يغادر باب الفندق طلب أن يصافح موظفيه وعماله ليشكرهم على ما أدوه أثناء أيام المؤتمر، وعاد من المطار إلى مكتبه بمنشية البكرى، وبقى فيه حتى أذان الفجر يتابع إعداد التحضيرات اللازمة لإنجاح عمل لجنة الإشراف على الاتفاقية، وقبل منتصف الليل بقليل مر عليه فى المكتب نجله الأكبر خالد، لم يكن ذلك أمرا عاديا، فكثيرا ما مر أنجاله أمام مكتبه ليلا دون التوقف مفضلين عدم إزعاجه، ولكن هذه المرة اشتاق خالد للحديث مع والده بعد غيابه أسبوعا فى المؤتمر، فترك عبدالناصر الأب الأوراق التى أمامه، وامتنع عن متابعة الاتصالات التليفونية ليسأل خالد عن أحواله فى الجامعة وعن دراسته، وعن أحوال أشقائه».
يعلق «فريد»: «لم يكن حديثا، ولكن وداعا أخيرا دون أن يدرى به كل من الأب أو الابن».