توقف الزعيم الهندى المهاتما غاندى فى ميناء بورسعيد، وهو فى طريقه إلى العاصمة البريطانية لندن لحضور مؤتمر «المائدة المستديرة» يوم 6 سبتمبر 1931.. كانت مصر والهند وقتئذ تحت الاحتلال البريطانى، وكانت الحركة الوطنية فى كل من البلدين تبحث عن خلاصها من الاحتلال، ولهذا احتفى حزب الوفد بالضيف الكبير، والتقى به على ظهر السفينة وفد من قادة الحزب، بزعامة مصطفى النحاس، كما كتب أمير الشعراء أحمد شوقى قصيدة شعر من أربعين بيتا بهذه المناسبة، قال فيها: «سلام النيل ياغاندى.. وهذا الزهر من عندى.. ولو ساعفنى الدهر.. لقابلتك فى الهند».
فى 7 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1931، كان الكاتب والسياسى محمد لطفى جمعة على موعد معه، ويذكر هذا التاريخ فى يومياته خلال هذه السنة 1931، التى جاءت فى مذكراته «شاهد على العصر»، لكنه يعود ويكتب التفاصيل تحت تاريخ 14 سبتمبر، ويذكر فيها أنه صعد إلى الباخرة «راجيوتانا» التى كانت تقل غاندى، ويؤكد: «استمر اللقاء ثمانى ساعات كانت أسعد ساعات الحياة، وكان فى صحبة غاندى بعض أقيال الهند ورؤسائها وأصحاب الفكر فيها.
يعد «جمعة » من أبرز رجال عصره فى السياسة والأدب، وفى مذكراته التى ضمت بين صفحاتها قصة ووقائع لقاء غاندى، يذكر الدكتور عبدالعظيم رمضان فى مقدمتها، أن مذكرات الكاتب تتناول الفترة من ميلاده فى يناير 1886 إلى ديسمبر 1937، وأهميتها أنها تصور عصرا بأكمله من زواياه الاجتماعية والفكرية والسياسية، بقلم أديب صناعته الأدب، وسياسى وطنى حظى بتقدير عصره ».
كان غاندى يقود النضال الوطنى فى الهند، ضد الاحتلال البريطانى بأسلوبه السلمى، الذى تفرد فيه وبه تاريخيا، ويصف «جمعة » ظروف لقائه معه، وحالته حين رآه لأول مرة، قائلا: «وصلت الباخرة الساعة الثالثة صباحا، وألقت مرساها على رصيف الميناء، فانتابنى قلق وخوف من عدم تحقيق الأول برؤيته، ثم صعدنا إلى الباخرة، وفى حوالى الساعة الثالثة والربع، ظهر غاندى فجأة ومعه المس سليد.. يؤكد: «لقد دهشت دهشة عظيمة لدى رؤيته، فقد كانت رؤيته بالنسبة لى أملا عظيما تحقق عندى، وبعد أن أفقت من نشوة لقائه، شدتنى إليه شدة أسره وقوة جاذبيته النادرة ».
فوجئ «جمعة » بالشكل الذى رأى عليه غاندى، ويعبر عن ذلك بقوله: «إن وجهه وثيابه تخالف الحقيقة وكل الصور الفوتوغرافية، التى شاهدناها والأوصاف الكتابية التى قرأناها، فبدنه أشبه بأى قروى فى أى قرية من قرى الوجه البحرى أو القبلى فى مصر، ولكنه نظيف جدا، وأعتقد أنه فى منتصف الحلقة السابعة من عمره، رأيته حليق الرأس قد شاب شعره، وعيناه صغيرتان سوداوان يبدو فيهما الذكاء والألم، وتتجلى فيهما الزهادة والإغضاء عن كل شىء من أعراض هذه الحياة الدنيا، وعندما يتكلم تلمح فى عينيه بريقا خاطفا، كأنه نور الفنار الذى يضئ ظلمات المحيط ليكشف الطريق للسفن الحائرة فى خضم الأمواج، أما أذناه فكبيرتان مما يدل على قوة حاسة السمع لديه، ولا يستر جسده إلا قطعة من قماش القطن، وهو فى جلسته يشبه بوذا، لأن جليسه يرى قدميه ظهرا وباطنا، ويداه مشغولتان بالغزل على مغزل يدور مفروش أمامه على الأرض، ويده اليمنى تدير العجلة واليسرى تمد الخيوط».
يضيف جمعة: «إن كل ما تعلمه عن غاندى سابقا بالدرس أو بالقراءة يتحقق لديك عند رؤيته كحقائق مادية واقعية ثابتة، ومن هنا ينشأ شعور لديك كأنك تعرفه وتحبه من قديم الزمن، فقد شعرت لدى رؤيته بهذا الشعور، أن مخ هذا الرجل أداة من أعجب أدوات الخليقة انتظاما وتركيبا، ويمتاز بمظهرين هما العقل والإرادة، ومما لا شك فيه، أنه شديد الذكاء والدهاء. إنه شخص فذ فى العالم فى الوقت الحاضر ومظهر إلهى فى الكون، وسره العظيم يكمن فى روحانيته لكونه روحا حرا طليقا ليس بينه وبين الحقيقة حجاب، وهذا دليل على أن قوة الروح تتغلب على الجسم وتفوز عليه. إن الرجل الذى وصفه نيتشه وتخيله وتبنى وجوده، يمكن تحققه بالقوة المعنوية فى شخص غاندى، وفى ذلك تكذيب للفلسفة المادية، ومعلوم أن نيتشه كان تلميذا للفيلسوف «شوبنهاور»، الذى تعلم فلسفة الهند وتشبع بالفكرة الهندية عن الإنسان الكامل، وقد تحققت هذه الفكرة فى شخص غاندى بعد موت «شوبنهاور» بخمسين عاما».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة