ناهد صلاح

بيروت هولدم.. لعله أمل!

الجمعة، 09 سبتمبر 2022 05:57 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ما الأثر الذي يمكن أن يتركه اللبناني ميشال كمون في "بيروت هولدم"، (عُرض في مهرجان البحر الأحمر، ويعرض حاليًا في صالات لبنانية)، فيلمه الروائي الثاني بعد 15 عامًا من أوله "فلافل" (2006) وبعض أفلام قصيرة أنجزها في مشواره المتمهل الذي باشره منذ مطلع التسعينيات، منها: "ظلال، حمام الدوش، قلب أحمر؟.

يبدو من عنوانه اللافت، كما عناوينه السابقة، وكذلك التريث في خطواته، أنه كما يبتغي التميز، يرغب ألا يسرف في حلمه. في ظني كان يمكن أن يكون أسرع، لكن ما فائدة التشظي إذا صارت أفلامه مجرد خواطر عابرة؟.

هذا لا يعني أن أصحاب الإنتاج الأكثر غزارة قدموا أفلامًا رديئة أو مستهجنة، أو أن منجز ميشال كمون السينمائي حقق الكمال، والكمال عمومًا ليس مطلوبًا ولن نجده في هذا الفيلم، لكننا أمام تجربة لها خصوصيتها التي لم تعتمد على الكم، وإنما في رأيي اتكأت على قاعدة " في التأني السلامة"، لا أقصد هنا بالسلامة هنا الضمان أو الاستغناء عن المغامرة، والجرأة، وهما من سمات الفن والخيال الأساسية، إنما مقصدي هو تفسير ومحاولة لإنقاذ الذات والدفاع عن وجودها، وفي تقديري إنها طريقة "كمون" ومقومات تجربته الأساسية، إضافة إلى ما تتمتع به هذه التجربة من سرد متدفق وبوح منفلت.

 في فيلميه الطويلين "فلافل" و"بيروت هولدم" نجده يتماهى مع بيروت ويندفع في تفاصيلها وأحوالها، ينفعل بناسها بالدرجة التي ترسخه ليس فقط كواحد منهم، بل كمتبصر وواع بخباياها وأهوالها وارتباكات واقعها القاسي. بيروت هي مدينته التي تحرضه على صناعة أفلامه، قضاياها كثيرة ومبعثرة، وبالتالي فإن حضورها ليس ترفًا، والاشتغال عليها يتطلب دأبًا لملاحقة يومياتها المتأرجحة بين الانهيار والمقاومة.

في "فلافل" تطالعنا بيروت ليست بوصفها مكانًا يدور فيه الحدث، إنها شريكة هذا البطل الذي يركض في شوارعها بدراجته النارية، عله يعثر على شيء ما "يحاوط" روحه القلقة، توفيق (إيلي متري) واحد من جيل تأذت روحه هو وجيله بالحرب اللبنانية، لا يحكي الفيلم مباشرة كما أفلام لبنانية كثيرة عن الحرب، لأنه مشغول بآثارها اللاحقة ومنفعل بمدينة تعيش فوق فوهة الهاوية.

من متاهة "فلافل" إلى حيرة وغموض المدينة في "بيروت هولدم"، (شاهدته مؤخرًا ضمن مشاهدات أفلام مهرجان الإسكندرية لسينما دول البحر المتوسط)، يحقق ميشال كمون هدفه في الإمساك بشخصية المدينة والبطل زياد (صالح بكري)، وإضفاء مسحة من الغموض، تناسب الخط الدرامي المتداخل مع الواقع الذي لا يحمل ناسه ولا يحتملهم، واقع بيروت الجديد المدجج بمعطيات أخرى غير معطيات الحرب القديمة، تبدو أقسى وأصعب، وهنا المخرج وهو المؤلف في ذات الوقت يلعب لعبته المقامرة، كما البوكر أو لعبة الروليت الروسية المشهورة، فيسحبنا تدريجيًا إلى الحكاية حتى نتورط فيها، ومع شخوصها، نشاركهم أوجاعهم وأزمتهم الاقتصادية، في فيلم شديد الخصوصية، يقدم الشخصية اللبنانية المأزومة في مدينة منذورة طوال الوقت بالفقد والفقر والحرب والانفجارات.

لا شيء يوقف هذا التورط والانفعال العاطفي، فيشدنا بطل الحكاية، زياد الذي يستهل به الفيلم، تصاحبه موسيقى (سينتيا زافين) المترقبة، وكاميرا سيلين بوزون، فنراه يستقل سيارة ليلًا في مشهد مفرط الحساسية، موزع بين شوارع في الخلفية كما لو كانت تتشكل وفق مزاجه المرتبك، وبين خطوته المترددة صوب بيته، حيث تعانقه والدته (نبيلة زيتونة) باشتياق ودموع، بينما والده (روجيه عساف) ساكنًا لا يلتفت نحو ابنه، إذ يشخص بنظره خارج النافذة التي يقف بجوارها، ثم نفهم أنه خرج توًا من السجن وأن والده غاضب ويحمله ذنب ومسؤولية موت شقيقه الأصغر، وحين يخرج زياد لمقابلة أصدقائه القدامى في لقاء مترع بالمحبة وكذلك بالعفوية والشتائم المعتادة بين الشباب، نرى صورة أخرى من صور التيه في مجتمع متعَب ومدينة تكاد تسحق أبنائها، لكل واحد فيهم قصته المثقلة بالهواجس والمخاوف والآلام وأشكال الرفض المتباينة، بينما يسعى زياد لاسترداد حبيبته كارول (رنا علم الدين) وإعادة بناء حياته من جديد، ولا يجد الأربعيني المشاكس وسيلة لتحقيق ذلك سوى المقامرة.

زياد هو نقطة الارتكاز التي تتمحور حولها الأحداث، لعب الدور في أول تعاون له مع السينما اللبنانية بعده "كوستا برافا إخراج مونيا عقل، الفلسطيني صالح بكري بفهم لطبيعة الشخصية وأبعادها النفسية، إضافة لإجادته بشكل واضح اللهجة اللبنانية، لكن البطولة هنا جماعية موزعة بين ممثلين لعبوا أدوارهم بدراية ما يتطلبه السيناريو للتعبير عن خيبات الأمل والخلل المجتمعي، والتركيبة النفسية لبشر يعيشون حياة قاسية هي أقرب إلى المقامرة، ولا مفر لهم سوى أن يخوضونها، مهما كانت النتائج.

هذا ما أراده الفيلم ببساطة ودون أية تنظيرات أو رطانة كلامية، في باديء الأحداث طالعنا زياد من زاوية معتمة في ليل بيروت، وخطفنا معه في تحولات مدينته المباغتة، ثم تأت النهاية وهو يقود سيارته بنفسه في نهار مضيء وأفق أرحب، فرغم كل شيء ثمة مسحة ما من الأمل، وإن كان هذا الأمل غير مضمون، لكن لابد من التشبث به لمواجهة الحياة العسيرة، كان زياد يائسًا من اليائسين، أصحاب الأحلام الصغيرة والشكسة في ذات الوقت، لكنه لم يستسلم، كان عليه أن "يكد ويكد" حسب وصيته للوليد الصغير، ابن صديقه الذي قُتل مصادفة هو وزوجته في أحد الانفجارات، ربما كل هذه القسوة تجعله يرتفع فوق الوجع، وتعلمه أن الوليد الصغير هو عشب جديد لحياة يتمناها مختلفة، فيخوض دروبه دون ضياع أخر.









الموضوعات المتعلقة

الفتوة ليس فتوة

الخميس، 01 سبتمبر 2022 10:56 ص

كـازابـلانـكـا.. "اعزفها لى يا سام"

الأربعاء، 17 أغسطس 2022 07:02 م

سعيد صالح .. الخارج عن النص

الإثنين، 01 أغسطس 2022 01:22 م

رأفت الميهي .. الخيال الحائر

السبت، 23 يوليو 2022 03:14 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة