ربما كانت العدالة الاجتماعية نداء ملايين، ليس فقط في مصر وإنما في كافة الدول النامية، في ظل ظروف صعبة عاشتها الغالبية العظمى من الشعوب، مما خلق قدرا كبيرا من التراكمات، جراء حالة من التفاوت المجتمعي، دفعت في نهاية المطاف إلى الانفجار، وهو ما يبدو في نماذج عدة من الثورات التي شهدتها العديد من المجتمعات، أقربها في منطقة الشرق الأوسط، إبان ما يسمى بـ"الربيع العربي"، والذي لم يحقق، في واقع الأمر، تلك الأحلام الوردية، التي خرج من أجلها ألاف البشر ليحتشدوا في الميادين للمطالبة بتحقيق هدف يبدو هلاميا، لا يمكن تحقيقه سوى في مدينة "أفلاطون" الفاضلة، في ظل معطيات أبرزها ضعف الإمكانات من جانب، ناهيك عن التراجع الكبير الذي شهدته الدول جراء الفوضى الناجمة عن الحراك، الذي اختلطت فيه المفاهيم بين الصالح المجتمعي العام، والأهداف الشخصية، سواء في صورة المطالب الفئوية، أو المطامع السياسية للطامحين الذين قفزوا، بانتهازيتهم المعهودة، على الهدف الحقيقي من وراءه من جانب أخر.
ونظرا لاستحالة تحقيق مفهوم "العدالة"، بالمنظور سالف الذكر، كانت هناك حاجة ملحة لـ"إعادة هيكلة" الرؤية، عبر خلق مزيج يجمع الجانب الاجتماعي المنشود، مع جوانب أخرى، أبرزها البعد التنموي، والذي يعد بمثابة "البوتقة"، التي تذوب فيها كافة الأهداف المجتمعية الأخرى، كالمساواة، والنمو الاقتصادي، وتحسين حياة المواطنين، في إطار ما يمكننا تسميته بـ"العدالة التنموية"، والتي ترتبط في جوهرها بالمسؤولية المشتركة بين الدولة والمواطن، من خلال تقديم الدعم للأخير ليجد فرصة أكبر في حياة كريمة، مقابل أن يكون شريكا في التنمية عبر العمل والإنتاج.
وهنا تبدو فلسفة "الجمهورية الجديدة"، والتي تعتمد مسارات عدة لتحقيق تلك الرؤية، حيث تغير مفهوم الدعم، من مجرد سلع لإشباع حالة لحظية من "الجوع" للفقراء، ليعتمد بصورة أكبر على توفير فرصة نحو مستقبل أفضل لهم ولأولادهم في المستقبل، وهو ما يبدو في تحويل سكان العشوائيات من مساكنهم غير الآدمية، إلى مناطق راقية تتوفر فيها كافة الخدمات، سواء فيما يتعلق بالتعليم والصحة وغيرها، لتكون تلك الخطوة بمثابة طفرة حياتية يتحقق معها مفهوم "العدالة"، فيما يتعلق بحق هذه الفئة في الحصول على سكن مناسب، والخدمات الأخرى المرتبطة به.
ولكن لم تقتصر مسارات الدولة المصرية في تحقيق "العدالة"، على مسار الدعم، وإنما ارتبط بمسار آخر هو "الشراكة"، والقائم على مساهمة المواطن في العملية التنموية الأوسع نطاقا، عبر مشروعات عملاقة، لم ترتكز على منطقة معينة، وإنما امتدت من شمال مصر إلى جنوبها، وهو ما يمثل جانبا أخر للمفهوم، عبر تحقيق "العدالة الجغرافية"، من خلال اقتحام تلك المناطق التي عانت تهميشا بالغا لعقود طويلة، وهو ما يساهم في توفير فرص عمل لسكانها، والذين اندفعوا للهجرة إلى القاهرة بحثا عن "لقمة العيش"، بينما تحولت العاصمة إلى مجرد وعاء سكاني يجمع ملايين البشر، بينما أصبحت المحافظات الأخرى، مجرد مدن "أشباح" خسرت مواردها، بسبب سياسات الإهمال والتجريف التي عانت منه لسنوات طويلة.
فلو نظرنا إلى الطفرة التنموية التي شهدتها محافظات الصعيد، وأخرها الخطوات العملاقة في سوهاج والمنيا وأسوان وغيرهم، نجد أنها تزامنت مع حراك مماثل بالوجه البحري، لتتحول تلك الأقاليم، التي كانت في الأمس القريب، "طاردة" لسكانها، إلى مراكز لاستقطاب الاستثمارات، لتتحول من قنابل موقوتة، جراء الإهمال، إلى بؤر مهمة لتحقيق التنمية الاقتصادية، عبر استغلال إمكانات كل منطقة، وهو الأمر الذي من شأنه تحقيق أكبر قدر من التكامل بين الأقاليم، مما يعزز عملية التنوع في الإنتاج، وبالتالي تحقيق أكبر قدر من الاكتفاء، فيما يتعلق بالعديد من القطاعات الحيوية، والتي تعاني من أزمات عالمية طاحنة، على خلفية المستجدات وعلى رأسها الأزمة الأوكرانية، والتي ضربت الأمن الغذائي في مقتل منذ اندلاعها، جراء اعتماد جزء كبير من العالم على استيراد الغذاء، وهو ما وضع الأمن الغذائي العالمي على حافة خطر داهم، قد يدفع العالم، خاصة في الدول النامية، نحو المجاعات والجفاف، وهي الأزمات التي تؤججها عوامل أخرى أبرزها التداعيات الكبيرة لظاهرة التغير المناخي.
وهنا يمكننا القول بأن رؤية الدولة المصرية لمفهوم "العدالة"، بات متجاوزا المفهوم الاجتماعي، والذي يتحقق بالتبعية، عبر العملية التنموية، من خلال تحقيق حالة من المساواة بين الأقاليم الجغرافية، ومواطنيها من حيث الفرص المتاحة، بينما يبقى دور المواطن متجسدا في اقتناص الفرص، عبر العمل والمشاركة الفعالة في الإنتاج لتأمين مستقبل أفضل لنفسه وأسرته ووطنه، ناهيك عن استغلال الموارد المهملة في كافة المناطق، لتتحول إلى بؤر انتاجية تصب في صالح الكيان الجمعي للدولة المصرية.