وقعت الحرب فانكشف العدو، لم يكن عبور القناة تعرية عسكرية فقط؛ بل سحَبَ غلالةَ الستر عن سرديّة إسرائيل الزائفة بكاملها، فوقع جرح الكرامة ومعه جراحات أخرى، لبلدٍ وُلِد مُتعسّرًا فى «كيبوتس»، وطُبِخ فى صفقات سياسية غربية، وظلّ محفوفًا من وقتها بعُقدة الشرعيّة. يعلم كلُّ صهيونى فى قرارة نفسه أنه طارئ على المنطقة، ويُغطّى كذبته بعجينةٍ من العقيدة والميثولوجيا وبُكائيّات الشتات والاضطهاد؛ لكنه يُثبِّت أركان الغطاء ويحميه من لسعة الضوء بالعُنف المُنفلت؛ لهذا لا يحتمل أن يختلَّ الردع أو أن يستقبل الصفعة الأُولى.. ما حدث فى أكتوبر أن الاحتلال فَقَد المُبادأة، وتعرَّى من السطوة وفَرض الإرادة، وتهدَّمت روايته عن الوعد الإلهى ونُصرة السماء، وهكذا انتقل فجأة من حال الدولة الصُّلبة لحالِ العصابة البائسة، ومن صورة المَنعة والهيمنة إلى مدار الهزيمة والانكسار، إزاء ذلك يستميتُ المهزوم فى تخليق حكايةٍ مُشوَّهة عن المعركة، لا لكراهة الخسارة فى ذاتها؛ إنما دفاعا عن الكيان وركائزه، وبالمثل لا يكون التشدُّد فى تبرئة قادة المحنة انتصارا لذواتهم، بقدر ما هو تحصينٌ للبيت الهشّ، وهذا ما يبتغيه «فيلم جولدا» بالضبط.
مُدّة الشريط 100 دقيقة، كتبه البريطانى نيكولاس مارتن وأخرجه الإسرائيلى جاى ناتيف، ولعبت هيلين ميرين دور رئيسة الوزراء الوحيدة فى تاريخ إسرائيل، مع طاقم عملٍ من عدَّة جنسيّات، بينهم الأمريكى ليف شرايبر مؤدّيًا شخصية هنرى كسينجر، والفرنسية كاميل كوتن فى دور «لو كودار» مساعدة جولدا مائير الشخصية، عُرِض للمرة الأولى فى قسم البانوراما بمهرجان برلين مطلع العام، بحضورٍ باهت، وفى مهرجان القدس لاحقًا دون أىّ احتفاء، وبمُتابعاتٍ نقديّة شديدة التبرُّم والتجريح.. وكانت الفكرة قد طُرِحت فى البداية على منصّة أمازون فرفضت إنتاجها، ثمّ تصدَّت لها شركةٌ إنجليزية بميزانية مُتوسّطة بلغت 29 مليون دولار؛ لكنه جاء فى صورته الأخيرة فقيرا ومُتقشّفا؛ كأنّه تجربة مُستقلّة لشلَّةٍ من الهُواة، والمُفارقة أن تقييمه على IMDB وعدد من المواقع بستِّ نقاطٍ (6/ 10)، كأنّ آراء الجمهور والمُختصِّين تُعاند صُنّاعه المُتورطين فى الإنكار والتزييف، من باب تذكيرهم المُؤلم بالسادس من أكتوبر فى كلِّ شىءٍ؛ حتى رؤيتهم الفنيّة لمستوى الفيلم.
لا يُعالج العمل سيرة السيدة جولدا، ولا يُقدّم قراءةً نفسيّة لها؛ إنما يُحاول من خلالها أن يُرمِّم الشروخ المُتّسعة فى جسد إسرائيل وروحها، يُمكن القول إنه كان مُضطرًّا لأن يضع حكايته على أكتاف رئيسة الوزراء العجوز، لا تبجيلاً أو فخرًا بها؛ إنما لمُصادفة أن تكون فى واجهة السُّلطة عندما حلّت الهزيمة، لعلَّ صُنّاع الفيلم يعرفون تمامًا أن «مائير» شخصية مُلغزة، وميراثها ليس محلَّ تقديرٍ فى إسرائيل، ولا بين أجيالها الجديدة، عاشت نحو 80 سنة، ومنذ ولادتها فى «كييف» تحت شيخوخة الامبراطورية الروسية، إلى هجرتها لأمريكا مع والديها، ثمّ الزواج والانتقال لفلسطين، والترقِّى داخل «الكيبوتس» ومع تأسيس الدولة؛ لتصبح سفيرةً فوزيرةً ورئيسة حكومة، تمتلئ سيرتها بالثغرات والأسئلة والعُقَد النفسيّة: نقصان حظِّها من التعليم، وضيقُها من أنوثتها الباهتة، والزواج غير المُشبِع حتى أنه تتردَّد حكايات عديدة عن علاقات جسديّة لوَّثت بها طهارة «أرض الميعاد»، وشُبهات تُغلِّف علاقتها بمساعدتها، أو بداية رحلة المجتمع التعاونى من حظيرة الماشية، والتضادّ بين الأمومة الحانية على اليهود والدموية المُفرطة مع العرب، ثمّ الهزيمة المُركَّبة أمام ذكور الحكومة وجيش مصر والمُعارضة اليمينية وأخيرًا اللوكيميا، إنها امرأة مغزولة بالمتناقضات، وما كانت تُبديه من عناصر قوّة؛ كان فى الحقيقة ضعفًا خالصًا، وما يُساق عن تحمُّلها الشريف للمسؤولية؛ إنما كان مُحاولةً للتهرّب وغسل اليدين.
عاشت ثلاثةَ أرباع عُمرها فى أرض فلسطين، منها ثلاثون سنة تحت علم إسرائيل، كانت فى السلطة لاثنتين وعشرين سنة منها: وزيرة العمل بين 1949 و1956، ثم الخارجية حتى 1966، ورئاسة الحكومة بين 1969 و1974، تُشكِّل ثقافة «الكيبوتس» مُرتكزًا رئيسيًّا فى هُويّة «جولدا» الصهيونية، فكانت تلك التجمُّعات تضم النُخبة الحاملة لمشروع البلد الاستيطانى، ومنها خرج ليفى أشكول وشيمون بيريز وموشيه ديان ومئاتٌ من قادة السياسة والعسكرية، بل إن ثُلث الحكومة حتى التحوُّل اليمينى أواخر السبعينيات كان منها، وفّرت تلك البيئة سرديّةً مُوازيةً لسرديّات التراث اليهودى وماضى المُعاناة القريب؛ إذ بانعزاليتها كانت تُعبِّر عن الصفاء الروحى، وتُذكِّر بـ«الجيتو» الذى اختاروه أو فُرِض عليهم فى الشتات؛ وإلى ذلك كانت حاملاً عضويًّا لفِكر العُمّال الذى يكسو الصهيونية بمسحةٍ يساريّة خفيفة، ساعدت على بناء حاضنة تستوعب المُتطرفين من أقصى اليمين لأقصى اليسار، وكان ذلك احتياجًا وجوديًّا لمهمّة التأسيس وجذب يهود العالم.
ينشغل الفيلم بتبرئة «جولدا»، ويطبخُ ذلك بنكهة نسويَّةٍ تُلائم عصر الصوابيّة الراهن، أكثر من اتّصالها بزمن الحكاية، المقصود بالدفاع ليست رئيسة الوزراء؛ إنما الدولة والمجتمع والشعب؛ فإسرائيل التى تقوم على تصوُّرٍ عقائدى، وترى أن الربَّ يحوط أرضها المُقدَّسة بعنايته ويده الطائلة، وأنهم المُختارون فى مُواجهة الأغيار وحُثالات البشر، تُمثّل الهزيمة طعنًا مباشرًا فى صُلب اعتقادها وقاعدة تأسيسها الميثولوجى، وإدانة رأس السلطة معناها فسادُ المنظومة، ومن وراء ذلك إدانة الجمهور الذين انتخبوا هؤلاء الفاسدين والمُقصِّرين ومحدودى القدرات، أى أن الغرض من الحكاية المُلوَّنة يبدأ بتحميل المسؤولية عن التعثُّر للصف الثانى، وتحديدًا العسكريّين الذين يتدرَّجون بيروقراطيًّا لا باختيار الشعب، ثم ينتقل من ذلك لتكرار الأُكذوبة الرثّة عن الخسارة التى صارت نصرًا.
جاء الفيلم فى اليوبيل الذهبى للحرب تعبيرًا عن استمرار المحنة، وأن إسرائيل لم تتجاوز إلى الآن تأثيرات ما واجهته على الجبهة المصرية، المخرج مولود فى 1973، أى لم يُعاين حالة المواجهة وشُروخها النفسيّة، لكنه على الظاهر ما يزال يكتوى بنارها، يبدو ذلك واضحًا بقوّة فى ارتباك المُعالجة، وفى الإشارات البصرية والرمزية برسائلها العاطفية المُتضاربة، يبدأ الشريط بدخانٍ وينتهى بموت «جولدا» بالتزامن مع اتفاقيّة السلام، ثمّ عصافير ميِّتة فى ممرٍّ طويل، كأنّ رحيل السيدة العجوز كان إيذانًا بغروب شمس الدولة بصورتها المُهيمنة، والانتقال لحال الهُزال والخضوع الاضطرارى، وذلك ممَّا لا يستقيم مع اعتماده للرواية الرسمية عن انقلاب دفَّة الحرب، فى بعض اللحظات لا يختلف السرد السينمائى عن رواية كتاب «المحدال/ التقصير» الشهير، وصاغه سبعةُ صحفيِّين من ثلاثة صُحفٍ مُتنوِّعة الميول، يروون فيه مشاهداتهم الميدانية المُقرّة بالهزيمة، وحتى دعائيّاتهم البطولية تنحصر فى أدوارٍ فردية لجنودٍ فى موقف الدفاع لا الهجوم، وإنجازهم فى النجاة أو انتشال الجثث وتطبيب الجرحى، الضبابية المُرافقة للفيلم لم تكن فى الحكاية وحدها؛ إنّما هيمنت على تحقيقه بصريًّا بالأجواء القاتمة، والإضاءة الخافتة، والإيقاع الرتيب حتى تحت القصف، ودُخان سجائر «جولدا» التى لم تُغادر أصابعها: وهى تتلقَّى أنباء الهزيمة، وتُحصى الجُثث، وتخضع لجلسات الكيماوى، وتُشاهد انتصار السادات يكتمل فى «كامب ديفيد».
مُفتتَح الشريط «فوتو مونتاج» ونقلات سريعة عن إعلان الدولة ونجاحاتها، وصولاً للانتصار فى 1967، استغرق الأمر دقائق، وربّما تقصَّد المخرجُ أن يُعبِّر عن امتلاك المُبادأة وحيويَّة المشروع؛ لكن طريقته قالت ضمنيًّا إنه كان وجودا طارئا وتلفيقيا، وسريعًا فى التوهُّج كما سيكون سريعًا فى الانطفاء، تظهر «جولدا» فى طريقها للتحقيق أمام لجنة أجرانات، ثم تستعيد أجواء اليوم السابق على الحرب. تاريخيًّا كانت فى رحلة للخارج وعادت 4 أكتوبر، لكن الفيلم يُزيح العودة ليوم 5، بينما يستقبلها رئيس الموساد تسفى زامير بمعلومةٍ عن هجومٍ وشيك.. هكذا يبدو منذ اللحظة الأولى أن الفيلم غير معنىٍّ بالتدقيق والضبط التاريخى، فالمهمَّة ليست عن الحرب، ولا عن ارتباك «جولدا» وفشلها طوال ثلاثة أسابيع مشحونة بالأحداث، إنّما هو مُرافعة دعائيّة عن العجوز أمام العالم أوّلاً، ثم أمام الإسرائيليين الذين أنكروها، ورفضوا تبرئتها من لجنة التحقيق، وأجبروها لاحقًا على الاستقالة، ثم عاقبوا تيَّارها السياسى فى أوّل انتخابات؛ ليفوز «الليكود» حديث النشأة فى 1977 بقيادة بيجين، ويحكم من وقتها ما يتجاوز 34 من إجمالى 46 سنة، بينما ظلَّ تحالفها «معراخ» بين حزبى العمل وماباى يترنَّح حتى تفكَّك تمامًا فى 1991.
تعرَّضت هيلين ميرين لانتقادات قاسية عن الدور، وقد بدت بالفعل فى أسوأ حالاتها؛ لأن السيناريو الدعائى تفرَّغ لمهمَّة غسل السُّمعة، على حساب بناء شخصية درامية مُتماسكة ومُقنعة، حتى أن مراجعة موقع «الطماطم الفاسدة» وصفته بأنه «درس تاريخى فى صيغة سيرة مُخيّبة للآمال»، كانت «جولدا الحقيقية» ذات سيكولوجية بالغة التعقيد، تلعب دورَ الأُم الحنون بإتقانٍ؛ لكنها فى الوقت نفسه تقول بصلفٍ «لا يوجد شىء اسمه فلسطينيون»، وتأمر بقصف مدرسة بحر البقر وقتل عشرات الأطفال دون أن يرفَّ جفنها، ثمّ تفخر فى المحافل الدولية بأنها تُنفّذ ألف طلعةٍ هجوميّة يومية ضد المدن والقرى المصرية، أظهر الشريط اهتمامها بالجنود، وابن مُوظَّفة الآلة الكاتبة، وأساها لمشاهد التوابيت العائدة من الجبهة؛ لكنه لم يُظهر وجهها الدموىَّ القبيح؛ بل استعاض عنه بإفراطٍ عاطفى فى مشاهد المرض والمُعاناة وجلسات الكيماوى وسقوط الشعر ونزيف الدماء، وبإظهارها سيّدةً مُسنَّة ثابتةً وسط قطيع من الرجال المهتزّين والخائبين، وأنها تعرَّضت للخديعة من قائد الاستخبارات العسكرية، إيلى زعيرا، الذى عطَّل برنامج التنصُّت، واحتملت جنون ديَّان، وتضارب الأجهزة وصراعاتها، وكانت عرَّافة استشرافية وهى تقول لشارون «سيجعلونك رئيس وزراء؛ لكن تذكَّر أن كلّ منصبٍ سياسى ينتهى بالفشل»، ثم يُظهر الأخير لصًّا شرِهًا وهو يُغافلها ويسرق الطعام قبل أن يُغادر بيتها، وبعدها تصفه بـ«الكلب المطلوق».. الجميع سيِّئون ومُخادعون وفشلة إلا «جولدا»؛ لأنها اختيار الشعب وإدانتها تُدينهم جميعًا؛ فكأن صُنّاع الفيلم يُدافعون عن أنفسهم، ودولتهم الاستيطانيّة المُخترَعة، وعن آبائهم الذين صوّتوا قديمًا للسيدة العجوز.
تمرير السرديَّة المشبوهة يستند للتضخيم من دور المفاجأة، ومن الدعم السوفيتى لمصر، ثمّ النفخ فى قصّة الثغرة، وإظهار العلاقة مع واشنطن فى غاية التوتر؛ كأنها تخشى موسكو والعرب وتُريد لإسرائيل النصرَ على حرفٍ من الهزيمة، وبجسدٍ تُثخنه الجراح، يقول الفيلسوف الصينى الشهير صن تزو، إن «الحرب كلّها تقوم على الخداع»، ومن ثمّ فإن المناورة والإلهاء وامتلاك المُبادأة من عناصر القوّة، ولا يمكن الطعن فيها كواحدة من استراتيجيّات إدارة المعارك وفرض الهيمنة ميدانيًّا، كما أن النزاعات الخشنة ليست غايةً؛ إنّما هى مسارٌ بديل عندما تتعطَّل السياسة ويغيب العقل.. وعلى ما يقول العسكرى البروسى/ الألمانى البارز كلاوزفيتز فإن «الغرض السياسى هو الهدف، وكلُّ حربٍ وسيلة، ولا يمكن اعتبار الوسائل بمعزل عن غاياتها»، والمعنى أنه إذا كانت إسرائيل قد اعتدت واحتلَّت الأرض، فإن المصريِّين ذهبوا لخيار الحرب من أجل ردِّ الاعتداء واستعادة سيناء، والتقييم النهائى لا يُمكن أن يخرج عن جَردة النتائج، وقد خضعت إسرائيل، وذهبت للتفاوض عكس رغبتها، ووقَّعت اتّفاقًا يسلُبها الهيمنة والجغرافيا ويُعيدها إلى «النقطة صفر» أمام القاهرة، ومن هنا لا يجوز الحديث عن أىِّ انتصارٍ أو غلبةٍ صهيونية؛ إذا كانت حصيلتها الأخيرة هزيمةً ماديّةً ومعنويّة، وانقلابًا فى السلطة، ووصمةً تُلاحق جيلَ المُؤسِّسيين الذين كانوا أبطالاً قبل أن ينقلهم المصريّون لدفتر العار، كما تراهم أجيال الصهيونية التالية عبر خمسة عقودٍ.
تهرَّب الفيلم من زيارة الجبهة؛ ربما يبدو الأمر فى ظاهره محكومًا بالميزانية؛ لكنه فى الحقيقة كانت مدفوعًا بالرغبة فى تحصين السرديَّة المُزيَّفة، والابتعاد عن طعن الروح المعنوية بغِلظةٍ مُزعجة، كانت مصداقيّة العمل تتطلَّب مشهدًا واحدًا على الأقل من الميدان، لكنه كان صعبًا أن يُظهِر تفوُّقًا عبريًّا غير موجود، ولا أن يُقرّ للمصريِّين بسحق جيش الاحتلال، وكانت المُقاربة الوحيدة عبر جولة «ديّان» بالهليكوبتر فوق الجولان، ربما لأنها الجبهة التى استردّتها إسرائيل سريعًا، وقد بدت مشاهدها شديدةَ الاصطناع كأنها مقطوعةٌ من لعبة فيديو، وكان ذلك علامةً مُتكرّرة على فقر الصورة وتواضع المُؤثّرات، أمَّا اللحظة الوحيدة التى حضر فيها شعور الإسرائيليين بالنصر عفويًّا وصادقًا، عندما أُخبِرت «جولدا» من الجبهة بأن السادات قال رئيسة الوزراء لا العجوز، وإسرائيل بدلا من الكيان الصهيونى؛ حتى أنها ابتسمت وهنَّأت كبار قادتها، وهكذا يتهاوى طموح البلد المُلفَّق والطارئ من ابتلاع الجيران، إلى الفوز بكلماتٍ مُحايدة لقاء خسارة كلّ شىء آخر.
تقول جولدا فى مُذكّراتها «حياتى» إنها عاشت كابوسًا سيظلّ باقيًا معها، ولن تعود إلى ما كانت قبل حرب أكتوبر، وإن الصدمة كانت فى «خطأ مُعظم التقديرات»؛ لكن الفيلم يُزايد عليها لصناعة مرجعيّة بطولية بنكهةٍ تراجيدية تُلامس تراث العبرانيين؛ كأنها تجديد توراتى للابتلاء والسَّبْى وصراع داود مع جالوت. يجتهد الشريط لتقديم مُعالجةٍ ميلودراميّة عن سيّدةٍ رومانسية تتأمَّل العصافير، وتُحارب السرطان، وتُواجه حربًا ذكورية فى البيت والميدان؛ لكنه فقيرٌ لأقصى الحدود فى السرد، وبناء الشخصيات، وفى المُعالجة البصرية وتطوير الدراما، لا معارك ولا وثائقيّات؛ باستثناء لقطةٍ فى شاشة مع السادات، موسيقى بطيئة أو حالمة، وصمتٌ يُطوّق أغلب الشريط، وصورةٌ تغلُب عليها الرمادية والألوان الكابية، ومُؤثّرات فى غاية الخفّة وعدم الإتقان. التمثيل ضعيف، باستثناء بعض مشاهد «ميرين»، وتسكين المُمثّلين توخَّى الشكلانية أكثر من قُدرات التشخيص والتعبير واستبطان المشاعر والحالات النفسية، الإخراج لا يخلو من مُراهقاتٍ رمزيّة، كأن يقلب الصورة فى مشهد الهجوم المضاد؛ كأنه يُخبِر بانقلاب أوضاع الجبهة، أو يقتصّ برعونةٍ من بطلته عبر لقطةٍ مُقرّبة تُضخِّم أنفَها كأنها «بينوكيو» الكذّاب، منطقُ الفيلم يتصادمُ مع ذلك؛ حتى لو تضمَّنت الحكاية كذبًا بالفعل، كأن تُوحى فى كلمتها للشعب بالمعرفة المُسبقة أو التفوُّق، وأن تُواسى «ديان» وتُطالبه بالبقاء صُلبًا ثم تُخبر «إلعازار» بتحييده وتجاهل أوامره، وأن تأمر بهجومٍ مُضاد ثم تنكر وتلوم العسكريين، وهى بجانب ذلك تجرح نفسها فى غرفة العمليّات، وتُوصى مساعدتها بقتلها لو وصل العرب، وتُعانى خيالاتٍ وكوابيس، وتزور الجبهة مُجبرةً للدعاية، وتُناقض نفسها بادِّعاء الاضطهاد فى أوكرانيا ثم تأكيد أنهم تسلَّحوا بفضل «ستالين». إجمالاً يبدو الفيلم خفيفًا وساذجًا، يبدأ بدخان سيجارةٍ وينتهى بها؛ وكأنَّ سيرة جولدا تُلخِّص مسيرة «بلدٍ من دخان».