تبدو الأزمة التي يشهدها قطاع غزة، شاهدا جديدا على حالة التشرذم الدولي، جراء المواقف المتنافرة بين القوى العالمية في الغرب، ونظيرتها في الشرق، وهو ما يعد بمثابة "محاكاة" جديدة لما أسفرت عنه الأزمة الأوكرانية، والتي انقسم العالم حولها، بين فريق مؤيد للمعسكر الغربي، بقيادة الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية من جانب، وآخر يبدو داعما لروسيا وعمليتها العسكرية، بينما يبقى هناك فريق ثالث آثر عدم الانحياز، وهو الأمر الذي ينطبق على القضية الفلسطينية، منذ ميلادها، إلا أن حصرها في النطاق الإقليمي لعقود طويلة من الزمن، وابتعاد تداعياتها المباشرة عن المناطق الجغرافية الأخرى، ربما ساهم إلى حد كبير في إهمالها من قبل القوى الدولية الكبرى، التي تتبنى مواقف تحمل قدرا كبيرا من الانحياز.
ولعل الحديث عن الانقسام بين الشرق والغرب، في إطار سياسة "المعسكرات"، ربما يثور بصورة كبيرة، فيما يتعلق بالعديد من القضايا الدولية البارزة، منها الموقف من بدءً من فلسطين، مروراً بالأوضاع في أوكرانيا، ناهيك عن القضية المناخية، والتي تشهد تشرذما حاداً بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، وهو ما يساهم في تفاقمها، وإطالة أمدها، وتعد القضية الفلسطينية المثال الأبرز، في هذا الإطار، في ظل بقائها لعقود طويلة، دون حل، جراء مماطلة سلطات الاحتلال من جانب، وسياسة التسويف من قبل القوى الدولية الكبرى، والتي تقوم بدور الوسيط الرئيسي، رغم مواقفها المنحازة، من جانب آخر وهو ما يعكس العجز الدولي عن اتخاذ خطوات جادة، من شأنها تحقيق ما تم التوافق عليه من قبل دول العالم، في إطار "حل الدولتين"، عبر تأسيس دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو لعام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
وهنا تبدو أهمية الدعوة التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي، بعقد قمة دولية وإقليمية، تحت عنوان "القاهرة للسلام 2023"، لمناقشة المستجدات التي يشهدها قطاع غزة، حيث تجتمع خلالها كافة القوى، باختلاف توجهاتها ومواقفها، تحت "المظلة" المصرية، من أجل إجراء حوار جاد من شأنه حقن دماء المدنيين الأبرياء من الجانبين، من جانب، والمساهمة في تحريك المياه الراكدة، فيما يتعلق بالمفاوضات، عبر الضغط على أطراف الأزمة، لمواصلة المفاوضات، وتحقيق حل الدولتين، باعتباره يحظى بالشرعية الدولية، من جانب آخر، بينما يبقى هناك بعداً ثالثا، ربما غير مباشر، يتعلق بتقديم الرؤية التي تتبناها مصر، حول الكيفية التي يمكن أن تدار بها الملفات الدولية الهامة، وتحديدا المرتبطة بالأزمات طويلة المدى، من أجل الوصول إلى حلول "توافقية" حولها، بعيدا عن سياسات الاستقطاب التي سادت المجتمع الدولي منذ عقود، وساهمت في المزيد من التعقيدات.
وفى الواقع، يبدو توقيت القمة المرتقبة، يبدو مهما للغاية، في ظل ارتباطه بحالة التصعيد الكبير، التي يشهدها قطاع غزة، والتي تعد الموضوع الأساسي والرئيسي محل النقاش بينما تأتي في خضم أزمات أخرى، تبدو متمددة جغرافيا، وممتدة زمنيا، على غرار التغيرات المناخية، التي باتت تطال تداعياتها كافة الدول شرقا وغربا، بينما تهدد مستقبل الكوكب بأسره، حال عدم الاستجابة لنداء "الحوار" الذي سبق وأن أطلقته مصر مرارا وتكرارا، خاصة خلال قمة المناخ الأخيرة، أو الأزمة الأوكرانية، والتي تهدد قطاعات حيوية، على غرار الطاقة والغذاء، أو غيرهما من الأزمات، سواء في السودان أو غيرها.
وهنا يتضح إيمان الدبلوماسية المصرية العميق بأهمية خلق "حوار" دولي، عبر قمم ارتبطت في معظمها بأزمات ملحة، ربما أبرزها قمة "جوار السودان"، والتي أجريت على نطاق محدود، يبدو من اسمها، حيث اقتصرت على دول الجوار، جراء القناعة التامة، بأهمية تحجيم محاولات التدخل الخارجي في الشأن السوداني الداخلي، بينما تساهم في الوقت نفسه في تهيئة الأجواء للحوار، بين أطراف الصراع الداخلي من أجل الوصول إلى حلول وطنية خالصة، يمكنها تحقيق الاستقرار في الداخل، ومن ثم احتواء تداعياتها المحتملة، على دول الإقليم.
الأمر نفسه ينطبق على قمة المناخ، والتي تمثل مناسبة سنوية، تستضيفها دولة مختلفة كل عام، إلا أن النجاح الذي تحقق، خلال القمة الأخيرة في شرم الشيخ، عبر استحداث "صندوق الخسائر والأضرار"، فهو في واقع الأمر يمثل ثمرة من ثمار حالة الحوار التي خلقتها الدولة المصرية بين كافة الأطراف، والعمل على تضييق فجوة الخلاف بين دول العالم المتقدم، الذي يسعى إلى تجاهل حقوق الدول الأخرى في تحقيق التنمية، ودول العالم النامي، التي تتمسك بمسؤولية الدول الأخرى، عما آلت إليه الطبيعة من تمرد، جراء سياساتهم التي اعتمدت نهجا "استنزافيا" تجاه موارد الدول الصغيرة والأضعف.
قمة "القاهرة للسلام 2023"، في جوهرها هي امتداد صريح لنهج الدولة المصرية القائم على خلق "حالة حوار" بين دول العالم، ذات المواقف المتنافرة، بهدف الوصول إلى توافق، لتتحول على أثره سياسة "المعسكرات" القائمة منذ الحروب العالمية، عبر التحالفات، إلى حالة من "الشراكة"، التي تتقبل الخلاف في الرؤى، بينما تسعى في الوقت نفسه نحو تعميق المصالح المشتركة، وهو ما يساهم في نهاية المطاف في تراجع كفة الخلافات لصالح المشتركات، وبالتالي تحجيم حالة الصراع الدولي، وتحقيق قدر من الاستقرار العالمي.