حازم حسين

فضيلة الاحتماء بالضعف.. عن تجديد «سردية فلسطين» تحت سقف السياسة والسلاح

الثلاثاء، 24 أكتوبر 2023 02:15 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
سأكون صادمًا لثقافة الفُحولة والتباهى بالبأس؛ وأقول إنّ أثمن ما يملكه الفلسطينيّون هو ضعفهم الصادق النبيل. ذلك لأن الثبات بصدورٍ عارية لخمس وسبعين سنة دليلٌ على أنها قضيّة وجودية، وأصحابها لا يقبلون بديلاً عنها؛ وإن كان الحياة نفسها. ليس معنى ذلك أنه لا يحقّ لهم المُقاومة، وانتهاج كل السبل الكفيلة بتحسين الأوضاع، والوصول لحقوقهم السليبة كما يرتضون؛ إنما المقصود أن تتكامل الأدوات دون إفراطٍ أو تفريط، وأن يظلّ السلاح مستورًا بالنضال السلمى، ولا يتخلَّى حرّاس الأرض عن فضيلة «الاحتماء بالضعف» إن جاز القول. ربّما يردّ غاضبٌ أو مُتحمّس بأن الاستضعاف والمُهادنة لم يُورثا الأبرياء نصرًا بائنًا، أو مُعتكَفًا حصينًا، وفى هذا يطول حديث الواقع والتاريخ؛ إنما حتى التسليم به لا يغنى من التماس كل وسيلةٍ قد تتحصَّل عنها الغاية الكبرى؛ ولعلّ النظر الجاد فى عملية «طوفان الأقصى» ومآلاتها، من دون مُبالغةٍ أو عاطفيّة ومُزايدات، يكشف قدر الحاجة لرُشد الدعاية، و»تذكرة المظلومية» التى ثبت دومًا أنها تُصيب المحطّة المقصودة فى قلوب البشر بامتداد العالم.
 
طال الاحتلال البريطانى لمصر بقدر عُمر المحنة الفلسطينية الآن؛ لكنها توصَّلت إلى الاستقلال بدمٍ زهيد ودأبٍ سياسى لم ينقطع. دولٌ أُخرى تحرّرت دون مُعاناةٍ أو فواتير، وتكبَّدت الجزائر بحرًا من الدماء حتى أنجزت خلاصَها، صحيحٌ أنها ناضلت وحاربت وقتلت من العدوّ، إلّا أن ضحاياه راحوا فى النسيان وظلَّت «بلد المليون شهيد». فى النضالات الكبرى ليس المحكّ فى حصَّالة الأرواح وعدَّادات الجُثث؛ إنما ما يُمكن أن تعكسه على البيئة السياسية وتأمين الطموحات المشروعة. كلُّ حياةٍ جديرة بالتحصين والرعاية؛ لكن العالم لم يكن يومًا مزرعةً للملائكة، وكثيرًا ما يفرض على الجميع طغيانًا خانقًا وشروطًا ظالمة، كما يجرى بحقّ غزّة الآن. المُؤكّد أن لا شىء يُبرّر الغطرسة الإسرائيلية، ولا يُمكن لضميرٍ قويم أن يُقرّ المقتلة المُتسلِّطة على رقاب المدنيين؛ وذلك أيضًا من طبائع النضال، وما يستدعى التباكى لا يصحّ أن تلقاه مُبتهجًا، وما تجنيه السياسة يتعيَّن ألّا تقطفه بالسلاح.
 
أطلق مُقاتلو الفصائل عمليّتهم المُدهشة «طوفان الأقصى» من وراء أسوار غزّة؛ لكنهم انشغلوا عن الرسالة بالأثر، وكيّفوه على ما يشفى غليلهم، ويُلاقى هوى الثأر فى صدور جمهورهم. كان المشهد أقرب إلى جنود «غزوة أُحد» وقد تطلَّعوا للمكاسب فوق ما اهتموا بكفاءة المعركة. بالغت العناصر وما يُسمَّى «الإعلام العسكرى» فى توثيق وقائع الهجمة، وبثّوا المشاهد باغتباطٍ وفخر، ولم يُقدّروا أن فى مُدرّجات الملعب خصومًا، لا مُناصرين فقط؛ فانقلب العالم فى مستواه الرسمى الذى عهدناه مُنحازًا، وعلى صعيد الأفراد الذين كانوا ظهيرًا إنسانيًّا للقضية. العاطفة الطائشة حكمت أداء «حماس» وحلفائها، أو ربّما الالتزامات تجاه الأصدقاء فى لعبة المحاور؛ النتيجة أنهم ربحوا يومًا وخسروا بقيّة الأيام، وأُدينوا عندما قتلوا، والآن يُقتَلون ويُدانون؛ كأنهم استهلّوا المباراة بهدفٍ سريعٍ، مُباغتٍ واحترافى؛ ثم استقبلت شباكهم ربع دستة أهداف، فضاعت حلاوة اللعبة وخرج الفريق مهزومًا.
 
الطرف القوى فى غنى دائمٍ عن تنظيم قوانين النزاع؛ إذ هو محمىٌّ بقوّته ومُرتكن إليها. الضعيف أحوج إلى الإسناد النابت من بيئة الضعف: أوَّله عدالة القضية، وآخره إعلاء الغاية على الوسائل. كانت إسرائيل تُوقن تمامًا وهى تنسحب فى 2005 أنها تُغلِّف «غزّة» هديةً لحركة حماس، ثم خنقت مؤسَّسات الحُكم فى «رام الله» بكل السبل. وبينما تشدَّدت فى إضعاف «أبو مازن» ومنظّمة التحرير؛ تساهلت مع تنامى قوّة الحركات الأصولية وتعالى نبرتها؛ بل اعتبرتها ذُخرًا وورقةً استراتيجية. كأنّ لسان حالها «اللهم اكفنى شرَّ أصدقائى؛ أمّا أعدائى فأنا كفيلٌ بهم» أو هم كفيلون بأنفسهم. و«عباس» صديق لناحية أنه يُمثّل الشرعية السياسية، ويحوز اعتراف تل أبيب بموجب اتفاق أوسلو، والإسلاميّون أعداء لأنهم يرفعون خطابًا راديكاليًّا مُلوّنًا بالأيديولوجيا ورغبة الإلغاء الكامل، كما فى أجندة اليمين الصهيونى.. إذا واجهت أسدًا فى غابة؛ فستخسر غالبًا بفائض القوّة والتوحُّش؛ أمّا إن كنت تبحث عن النجاة فلا يهمّ أيّكما يدخل القفص. حكمة الضعف فى ألّا يتمثّل المُنسحقُ صورةَ المُتغطرس، ولا أن يذهب إلى أدواته التى جرَّبها وأتقن استعمالها. البديهىُّ أنَّ تحجيم السلطة يخدم الدولة العبرية؛ وإلّا ما سعت إليه، وأن فى ترقّى المقاومة مصلحةً مقصودة؛ وإلّا ما غضَّت الطرف عنه.. استعارة «وهم القوّة» من العدو قد يكون آخر ما يحتاجه الضعيف فى سباقٍ تحسمه النقاط، ولا يقل فيه تلقِّى لكمةٍ غير قانونية عن تسديد ضرباتٍ مُركّزةٍ صائبة، وإن كانت ضعيفةً ومُتباعدة.
 
تحرَّكت القضية فى الزمن، وظلّ الوعى حبيس جغرافيا النكبة. وحده ياسر عرفات اخترق جدار الماضى فى الذهنية الفلسطينية: لا أحد يفوقه فى قطع المسافات تحت ظلّ السلاح، ولا أحد يُجاريه فى استثمار الضعف. أنتج ذلك حاضنةً إقليمية مسكونة بالأمل رغم الصدامات الدامية، ومسارًا سياسيًّا أفضى لحُكمٍ ذاتى، ومُقاومةً رشيدة تسند السياسة ولا تُقوّضها. وكان واعيًا بأهمية الجسر بين الضفّة والقطاع، فى «غزة أريحا» وبعدها؛ لكنَّ ورثته من الجانبين أهدروا ورقة المظلومية فى سباقٍ خائب على قوّة غائبة. وُلدت «حماس» نفسها من رحم الضعف، على ما تقول أدبيَّاتها عن التأسيس بعد الانتفاضة الأولى «أطفال الحجارة» 1987، رغم أنه لم يُعرَف لها دور إلا مع الانتفاضة الثانية بعد ثلاث عشرة سنة. لكنها تعرَّت من ضعفها قصدًا عندما استقلّت بالقطاع منتصف 2007، وكاسرت حكومة عباس طمعًا فى الحلول بديلاً، ثم وضعت رباطها مع الإخوان فوق التزامها بالقضية، وعندما انخرطت فى «محور الممانعة» تحت الراية السوداء. كان اختطاف السلطة مشهدَ ادّعاءٍ للقوة، والتمدُّد عبر الحدود تعبيرًا عن نزوعٍ للتساند بالآخرين، على ما فى ذلك من تناقضٍ بين نضالٍ ركيزته التعاطف، وحليفٍ رهانه المُباهاة بالبأس، ولو بمدافع الصوت وانتصارات الحناجر الزاعقة.. كان التأسيس العقائدى، وما رافقه من مُبالغةٍ فى القوّة، جسرًا عبَرَه اليمين المتطرّف لواجهة المشهد الصهيونى؛ صحيحٌ أن ذلك جرى بالتدريج بعد هزيمة إسرائيل فى 1973؛ إلّا أن حالة الأسلمة سمحت له بأن يُجاهر بإنفاذ رؤية توراتية صريحة، وسهّلت تمرير سياسيين بنكهة الحاخامات إلى دواليب الحكومة.
 
لا «طوفان الأقصى» ولا مائة ضعفٍ تُوازى ما تكبَّده الفلسطينيّون زهاء سبعة عقود. إنّها أقلّ من الثأر العادل؛ لكن إدارتها إعلاميًّا كانت خاطئةً لدرجة الشطب على ما سبقها، وربما ما تلاها من جريمة حربٍ مُتّصلة حاليًا ضد القطاع. المقاومة الإسلامية كان فى ذهنها أن تُلوِّح بالسكاكين ترهيبًا للدولة المُدجَّجة بترسانةٍ جارحة، والبيئة الدولية تُحبّ راجمات الصواريخ المستورة بالأكفان وملابس الحداد، أكثر من القصاص مكشوف الوجه والسلاح. هكذا سقطت الفصائل فى فخ الدعاية المُنفلتة، بينما احتمى «نتنياهو» بالبكاء المُصطَنع، ونشط فى ترويج سرديّة مُخلَّقة عن اغتصاب النساء وقطع رؤوس الأطفال ووصم حماس بالداعشية، ثم رتّبوا جولاتٍ للصحفيين ووزَّعوا صورًا ومواد فيديو لا يخلو بعضها من تلاعبٍ واصطناع، واستدعوا «الهولوكوست» لتوجيه فائض الكراهية فى ذاكرة الغربيِّين باتّجاه غزّة، وسرعان ما رُفِع علم إسرائيل فى العواصم الكبرى، وتردَّدت روايتها فى الإعلام، وعلى ألسنة ماكرون وسوناك وشولتز وبايدن ووزرائه، وقال السيناتور الجمهورى ليندسى جراهام إنها «حرب دينية» مطالبًا بتسوية البلدات بالأرض.. عادت الحركات لاحقًا لخطابٍ أقلّ رعونة؛ لكن «تل أبيب» كانت سبقتها لحجز مقعد المظلوميّة فى صالونات العالم.
 
قطعًا لا يُمكن القفز على حقيقة الانحياز «الأورو-أمريكى» المُسبق؛ إلّا أن التعرِّى من الضعف يسَّر لهم التشدُّد فى الدعم لدرجة العمل الميدانى، وبرَّره أمام مجتمعاتهم. ربّما تتّجه الصورة للاعتدال أخيرًا؛ لكن الأيام الأولى حملت انقلابًا واضحًا فى المزاج العالمى لصالح الاحتلال؛ حتى من كانوا رصيدًا دائمًا للقضية. عدوانٌ أقلّ شراسة كان كفيلاً بإشعال رفضٍ عارمٍ قبل سبعة عشر شهرًا، وقتما استُشهِدت الإعلامية شيرين أبو عاقلة؛ أمّا الآن فالمُؤازرة عند أدنى منسوب، رغم أن الهجمة أسقطت ما يفوق ضحايا أربع حروب سابقة، فى النعوش وتحت الأنقاض. الغالب أنه تحوُّل ظرفى عابر، ولن يطبع القضية أو يُلوّث شرفها؛ لكن ما كانت لفلسطين حاجة فى اختبار التجاهل والإنكار، وما كان عسيرًا الإفلات من وحل البروباجندا؛ لو أن ما بعد «الطوفان» أُدير بحصافةٍ وحظٍّ من الكتمان مثل ما قبله، ولو أن المقاومة نزلت عن غرور القوّة ونشوة الانتصار، وسارت إلى الاحتماء بالضعف.
 
ربما التفتت لذلك أخيرًا؛ لكنها أنجزته أيضًا بطريقةٍ خاطئة. خرج صالح العارورى، نائب رئيس حماس، على الجزيرة، مُتفرّغًا للدفاع عن مُقاتلى القسّام حصرًا، فقال إنهم لم يقتلوا المدنيِّين أو يأسروهم؛ بل فعلها الغزيّون المُتدفّقون على المستوطنات بعدما كُسِر السياج، وتكرر المعنى من قادةٍ آخرين. فى اللعبة الجماعية ليس من صالحك أن يُسجَّل خطأ على أىّ عضو بالفريق، وخطاب الضعف والمظلومية ينبغى أن ينبع من أرضيةٍ وطنية خالصة؛ وإن أطلَّ من منظورٍ فئوى يفقدُ بلاغتَه، ويُصيب الجبهةَ كاملةً بشظايا النيران الصديقة. كأنّ «العارورى» يُلبِس مواطنيه الخوذات وسترات الجنديّة، ويُبرِّر لإسرائيل اتّخاذ المدنيِّين هدفًا مشروعًا. على العكس، كانت الدبلوماسية الفلسطينية بالخارج ناضجةً وعالية الكفاءة؛ إذ رغم ثقل المواد البصرية، واستغراق الإعلام فى رواية الصهيونية، امتنعوا عن إدانة الفصائل تمامًا، وقدَّموا عذابات المدنيِّين وتاريخ مُعاناتهم للواجهة. هنا يتجلَّى الفارق بين إدارة الصراع بمنطق الدولة التى تُناطح عدوَّها؛ لتحجز موقعًا تحت الضوء، حربًا وسِلمًا، وإدارته بالشعبويّة والتصادم العشوائى، وفق غايات المحاور، وبموفورٍ من الاطمئنان للمخابئ والأنفاق.
 
يمضى الاحتلال تحت غطاءٍ دولى باحثًا عن تخليق إيحاء بالنصر؛ ولو كان مُضلِّلاً، وتسعى الفصائل للإفلات من هزيمةٍ ثقيلة، لم تعد تضمن أن يرافقها تعاطفٌ عالمى واسع. ليس لنا أو لغيرنا أن نسلب المقاومةَ حقَّها فى تحديد الخيارات والمواقيت؛ مهما بدا ذلك محمولاً على اعتباراتٍ «فوق فلسطينية»؛ إلّا أن فحص النتائج واستيعابها حقٌّ وواجب. والظاهر أن القضية تضرَّرت من الأحداث الأخيرة: الاحتلال الغاشم يغسل يديه بالمُطهّرات الغربية، ويمينه المُتطرِّف يزدهر صاعدًا لمزيدٍ من تحكُّمات الأُصولية الأرثوذكسية، ويُجاهر الآن بمخطَّط التهجير الذى استدعاه من أوراق شارون، أمّا الفصائل فتلقَّت ضرباتٍ قاسيةً، حربًا وتشويهًا، وربما تتآكل روافعها تحت موجات الوصم والاستهداف. لعلَّ «حل الدولتين» أُزهِق تمامًا؛ أو بقليلٍ من التشاؤم نبدو فى أبعد نقطة من تسويةٍ سياسية. لم يعُد خطاب الضعف رفاهيةً يُمكن تفويتها، وتحصيله مشروطٌ بإعادة تفعيل هياكل السلطة، والبحث عن صيغةٍ مدنية جامعة للنضال الفلسطينى؛ إمَّا ببناء ائتلافٍ عريض لا يتخفَّى وراء الأيديولوجيا، أو بالبحث منذ الآن عن بديلٍ أقل أُصوليّة من «حماس». ليس فى مقدورها مواصلة الحياة مع توصيفها الغربى الجديد بـ«الداعشية»، ولا من صالح غزّة أن تُسدِّد فاتورةً مفتوحة لبقائها بالصيغة الحالية، أو لغيابها دون وريثٍ حقيقى، يُمكنه أن يملأ موقعًا لا تصحّ المُخاطرة بأن يصير فارغًا.
 
الاحتماء بالضعف يخدم القضية؛ لكنه لا يُرضى حُلفاءَ الفصائل، بينما اختراق «حماس والجهاد» لواحدةٍ من المسارات التاريخية لإدارة النزاع يُقلق الحاضر، ويُثير الشكوك فى المستقبل. أقرب التجارب لم يتجاوزها لبنان بعد؛ وقتما دخل «حزب الله» حربًا مع إسرائيل على شرط الالتزام الأيديولوجى، فتغاضى الجميع عن اغتيال الحريرى قبلها، ورقصت المنطقة بكاملها على أطلال الدمار الذى أُريد له أن يكون انتصارًا؛ ثم سرعان ما صرف مُنفردًا فائض المشاعر المُتأجِّجة فى بنك التغوُّل على الدولة: اقتحم بيروت بالسلاح فى 2008، وتسلّط على ميثاقية الطائف فارضًا الثلث المُعطّل فى اتفاق الدوحة، وأسقط حكومة الحريرى الابن 2011، ثم جمّد الدستور سنتين لإيصال ميشال عون للرئاسة، ويخنقه منذ شهور لأجل فرنجية، ولم تمنعه مبدئيّة المواقف من ترسيم الحدود البحرية مع العدو، أو حُسن استقبال التحذيرات الأمريكية؛ حتى لا تنفتح جبهة الشمال تخفيفًا عن غزّة. كان القطاع بمثابة الضاحية لحماس، والتالى أن تبتلع مرافق السلطة خنقا لأوسلو، وهو ما تريده إسرائيل اليمينية الساعية لدفن ميراث «رابين» كما دفنت جثّته، كأنها تُصحّح أخطاء الماضى، بتلاقٍ عجيب مع عدوِّها القابض على راديكالية عقائدية، يقول إنها صلبة لا تتزحزح. ربما لا يغيب عن تلك الرؤية أثرُ النفور من الإخوان والحلف الشيعى؛ إلّا أن مهمَّة تذويب الشكوك وإثبات حُسن النوايا تقع على عاتق الفصائل الإسلامية، وخطاب الضعف قد يكون البادرة: بمعناه السياسى المُوجِب للرجوع عن إلغاء مُنظّمة التحرير، وبمعناه النضالى الذى يفرض عدم تقديم أيّة أجندة خارجية على وطنيّة القضية وصفائها، وبالمعنى الأخلاقى المحكوم بألّا ينفرد فريقٌ بالقرارات المصيرية؛ لا سيّما الحرب.
 
فلسطين قضية ناسها أوّلاً، وهم أقوياء بصمودهم وموقفهم العادل وإيمانهم بالجغرافيا والتاريخ؛ لكنهم ضعفاء على ميزان الصراع، ولا جدارة لأىّ تصوُّرٍ لا يحترم ضعفهم. حال الفلسطينيين لا يحتمل قرصنة مكاسب النضال مُتّصل الحلقات، أو مُصادرة المحنة من إنسانيّتها إلى مداراتٍ مذهبيّة، ومُغامرة نزول الميدان بسلاح لا يُجيدون استخدامه أو يملكون ذخيرته. فى المواجهات الكُبرى إمَّا أن تكون قويًّا فعلاً؛ أو تستميل عاطفة الأقوياء. تبخَّرت دعايات «وحدة الساحات» رغم الفورة التعبوية، وحتى بعدما استنجدت «حماس» بالمُمانعين علنًا، لم تتدفّق صواريخ الحوثى ومُسيّراته كما وعدوا، ولا هبَّت ميليشيات سوريا والحشد الشعبى من مواتها، وما تزال مناوشات الجنوب اللبنانى تحت سقف الاشتباك، بما لا يتجاوز تبييض الوجه وتبادل الرسائل فى نطاقٍ مقبول.. سقطت عباءة القوىّ، وما عاد مُمكنًا ارتداء خِرقة الضعيف؛ فوقفت الفصائل عاريةً من نُصرة الحليف أو شفقة الصديق. إن كان لا عاصم اليوم من قذائف الاحتلال وترسانته الطاغية، ولا مفرّ من صدامٍ برّى، مهما تكبَّد فيه ستكون خسائر المدنيين أكبر؛ فإن فى المستقبل مُتّسعًا لاستيعاب الدروس وعدم تكرار الأخطاء: المقاومة المُسلَّحة والسلمية حقٌّ وواجب وضرورة وجود؛ إنما ينبغى التماسها بأعلى مقادير النضج والكفاءة والإحكام، وسواء أصاب الرصاص صدر العدو أو أخطأه، فلا بديل عن فضيلة الاحتماء بالضعف.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة