نحو خمسة أسابيع تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية؛ إذ ينطلق تصويت المصريين بالخارج مطلع ديسمبر المقبل.. ربما ألقت الأحداث الإقليمية، والعدوان الواقع ضد غزّة، ظلالًا كثيفة على الأجواء العامة، وقلَّصت منسوب المُتابعة وحجم الزخم الإعلامى الطبيعى فى تلك المرحلة من السباق؛ لا سيما أن الدولة بكامل مُؤسَّساتها على خطّ الاشتباك السياسى والإنسانى مع المحنة الفلسطينية؛ إلّا أن الاستعدادات التنظيمية تتقدَّم بحسب الجدول الزمنى المُعلن، وباتت خريطة التنافس واضحةً بدرجة كبيرة، ويستعد المُرشّحون لاختيار الرموز وبدء الحملات الانتخابية خلال الأيام المُقبلة. ولعلّ الأوضاع الطارئة فى الجوار تُكسِب الاستحقاق الدستورى أهميةً مُضاعفة؛ انطلاقًا من أنها تُعيد تكوين هيكل السلطة وسط تحدّيات حقيقية يختبرها الأمن القومى، وتُؤكّد قدرة الدولة على إنجاز التزاماتها الداخلية دون تقصيرٍ فى أدوارها الخارجية، كما تفتح الباب لمُمارسةٍ سياسية ناضجة، تنضبط بالأولويّات الوطنية، وتتجاور فيها المُنافسة المشروعة، مع الاصطفاف المطلوب تحت سقف الغايات والمصالح العُليا.
الرسالة البارزة من أداء المُرشّحين المُحتملين؛ أنّ المسائل الحيوية ليست مجالاً للمُزايدة أو كسب النقاط.. ربما يعود الفضل الأكبر فى ذلك للدولة نفسها؛ إذ جاء الخطاب الرسمى شديدَ الجدّية والوضوح، وقدَّم مُقاربةً صُلبة تتجاوز كلَّ الخطابات الشعبية؛ حتى من النُّخبة وأطياف المُعارضة. يُمكن القول إن نظام الحُكم تفوَّق على خصومه، وكان مُقنعًا ومُرضيًا تمامًا للرأى العام؛ لهذا انحسرت العناوين الراديكالية ذات الطابع الشعبوى المُعتاد من بعض الأحزاب والسياسيِّين، وصار وقوف مُرشَّحى الرئاسة وراء الحراك المُؤسَّسى هو الموقف الأكثر تقدُّمًا بالنسبة لهم.. لا يمنع ذلك أن اشتباك المُتنافسين الجُدد مع الحدث كان أقلَّ من المطلوب؛ فغاب أغلبهم عن الفعاليّات الاحتجاجية وأنشطة الدعم والإغاثة، واختُذل ظهورهم فى بياناتٍ لم تُعزّز مراكزهم لدى الشارع، وقد صار أكثر سخونةً وأقرب إلى حرارة القيادة فى التعاطى مع تطوُّرات المشهد. يُضاف لذلك أن المُنافس الأبرز، الرئيس السيسى، كان فى واجهة الصورة انطلاقًا من مهامّه الدستورية، ومن الخلفية المهنيّة التى تجعله مُلمًّا بتفاصيل الصراع وتعقيداته.. صحيحٌ أنه لم يكن مطلوبًا أن تتحوّل «قضية غزّة» إلى ميدانٍ للتسابُق الدعائى؛ إلا أنّها تظلّ محكًّا شديد الأهمية فى قراءة قُدرات المُرشّحين وإلمامهم بالسياقات الإقليمية، وتشابُك علاقات مصر مع مُحيطها والعالم، وكفاءة التجاوب مع الامتحانات العارضة، خصوصًا أن البيئة العربية مُعرَّضة دائمًا لاندلاع هذا النوع من المُواجهات الصعبة.
تفجَّر الوضع فى فلسطين قبل أسبوعٍ من إغلاق باب الترشُّح للرئاسة؛ لكن ذلك لم يُغيّر شيئًا فى حُظوظ المُرشّحين. وصل إلى العتبة الانتخابية من يملكون قاعدةً شعبية أو برلمانية، وأخفق مُحترفو الشعارات الحنجورية، والقابضون على فوائض راكدة من حقبة الدعايات القومية القديمة؛ ولم تُوفّر لهم القضية بسخونتها منصّةً لانتهاج سُلوك التعبئة والابتزاز الذى اعتادوه. ومنذ إعلان القائمة المبدئية فى السادس عشر من أكتوبر، بات شكل «بطاقة الاقتراع» واضحًا بدرجةٍ ما، فالهيئة الوطنيّة للانتخابيات أعلنت قبول أوراق المُرشّحين الأربعة، السيسى وزهران ويمامة وحازم عمر، وقد أُغلِق باب الاعتراضات قبل ذلك بعدّة أيام دون تسجيل أيّة حالة اعتراض، ما يعنى فراغ المُهلة الزمنية المُقرّرة للفحص والاستبعاد والطعون بين 21 أكتوبر و7 نوفمبر، والمحطّة التالية مع اختيار الرموز وإعلان القائمة يومى 8 و9 من الشهر المقبل. المعنى أنه ما لم يتنازل أحدُ المُتقدّمين خلال الموعد القانونى المُحدَّد بمنتصف نوفمبر؛ فإننا إزاء انتخاباتٍ يتنافس فيها أربعةُ مُرشّحين، يختلفون فى الخلفيّات السياسية والأيديولوجية، وبالتأكيد فى الأفكار والأولويات؛ وإن كانت طبيعة الأزمة المُتأجِّجة على الحدود الشرقية لا تسمح ببروز تلك التبايُنات، كما تفرضُ التوافقَ الجماعى التزامًا باعتباراتٍ وطنيّة وأمنية؛ فإن المطلوب أن تكون فترة الدعاية والحملات ورشةً حقيقية لترجمة حالة التنوُّع، ولا يتأتّى ذلك إلا من خلال برامج جادة، وطرحٍ مُتماسكٍ للمقترحات والبدائل، بعيدًا من الخطابة والعناوين الإنشائية ومصيدة التضخيم والمُبالغات.
كان الغالبُ فى أيام السباق الأولى، أنّ بعض الراغبين فى الترشُّح قدّموا خطاب الهجاء السياسى على أولوية إنجاز أطروحاتٍ مُتماسكة؛ فركَّزوا على انتقاد المُنافسين بدلاً من تقديم أنفسهم على وجهٍ ناضج ومُنضبط. حالة اللوثة أخذت فى التراجع مع تقدُّم الإجراءات، وتثبيت المراكز المادية والمعنوية للذين طرحوا أنفسهم على الجمهور؛ فاختبروا فاعليّة التعقُّل وخفّة العاطفة بشكلٍ عملى مُباشر.. مُشكلة الشخصنة أنها تنطوى على رغبةٍ فى التهرُّب من الواجبات الذاتية، أكثر من كونها ترويجًا من باب تكسير الخصوم. الواقع أن مُجرَّد السعى لدخول المُعترك الانتخابى معناه اقتراح بديلٍ سياسى بمرجعيّات وأهداف مُغايرة؛ ويكون الدور بعدها على إنتاج وتطوير البدائل الموضوعية، نابعةً من تأسيسٍ أيديولوجى واضح، ومُنطلقةً إلى رسم ملامح مُؤسَّسية وحركيّة لتفعيل البرامج وخطط العمل. الشرط الأول أن ينضبط الحديث بالمنطق والمعلومة، وأن يأتى مُستندًا على إلمامٍ بالتفاصيل وفَهمٍ للسياقات والمُعوّقات، ثم يكون عقلانيًّا فيما يُبشّر به من مساراتٍ ونتائج، بعيدًا من المطاعن السطحيّة أو الوعود الورديّة البرّاقة.
تابعتُ قبل أيام حوارًا لأحد المُرشَّحين المُحتملين. أبدى اعتراضًا على المسار الاقتصادى الراهن؛ دون أن يُفنّد مُكوّناته، أو يستعرض المآخذ ويُورد التعديلات التى يراها ضروريّة. وكان الصادم أن يتحدَّث عن تكلفة العاصمة الإدارية بتقديرٍ مُبالغٍ فيه، وعندما سأله المُحاور عن مصدره كان الردّ: «بيقولوا».. دعك من فكرة أن للعاصمةِ شركةً تُدار بمنطقٍ اقتصادى وتُموّل عمليّاتها من عوائد الأرض والشراكات؛ إنما المشكلة فى أن ينتقل حديث المقاهى إلى فم مُرشّح رئاسى، وأن يصير من السهل بناء المواقف الجادة على معرفة مُضلِّلة، وإطلاق الأحاديث بنكهةٍ دعائيّة تتطلَّع إلى السياسة باعتبارها حلبةً للمُكاسرة واستراق النقاط؛ بدلًا من أن تكون نافذةً على التنوير والجدل العقلى الفاعل. نوعيّة الرسائل الشعبوية اللاعبة على وتر الضغوط المعيشية والفرز الطبقى، آخر ما نحتاجه فى مُختبرٍ يُناط به أن يفرز السلطة الأرفع بين دُولاب الإدارة؛ إذ بجانب ما تُشيعه من أجواء تحسُّسية مُعطّلة للوعى والحماسة، تُفقِد الطبقة السياسية على المدى البعيد رصيدَها لدى الشارع، وتُعمّق الشكوك فى الكفاءة وجدّية المُمارسة؛ حتى أن الأذهان تنصرف عن اتّخاذها بديلاً مقبولاً، فى مُستقبل الرئاسة أو فى استحقاقاتٍ انتخابية وتمثيلية أدنى.
الملمح الأبرز، أن البرلمان كان فاعلاً أصيلًا فى مسارات الترشُّح. راهن ثلاثةٌ من أصل أربعة مُرشّحين على تزكيات النوّاب فى المقام الأوّل، ووصل اثنان إلى العتبة من خلالها حصرًا، والسيسى وحازم عمر أرفقا بها نماذج التأييد الشعبى.. يفرض ذلك على النخبة الحزبيّة النظرَ باهتمامٍ أكبر إلى تفعيل نشاطها؛ استعدادًا للانتخابات التشريعية بعد عامٍ وعدّة شهور؛ خصوصًا أن المجلس المُقبل سيكون شاهدًا على الاستحقاق الرئاسى فى 2030.. الأزمة أن بعض فصائل المعارضة لم تلتفت إلى عُمق الشرخ الذى يفصلها عن الشارع، ويُترجَم واضحًا فى ضعف تمثيلها النيابى؛ بل إنهم لم يستوعبوا أهميّة التحالفات وبناء التوافق مع المُتقاربين فكريًّا. دلالة ذلك أنهم طعنوا صديقهم «الأيديولوجى والائتلافى» فريد زهران من بوّابة نجاحه فى تأمين عدد النواب المطلوب، انطلاقًا من أن حزبه يشغل سبعة مقاعد فقط؛ وتجاهلوا عضويّات بعض أحزاب الحركة المدنية، وقائمة المُستقلّين الطويلة بما تُوفّره من ذخيرةٍ صالحة للرهان وتطوير الشراكات. كان الموقف كاشفًا لقدرٍ من الدوجمائيّة والنزق يتسلَّط على عقول التيّار المدنى، وتكفّلت ورشة التجهيز للرئاسة بنَزع غطائه، كما فجَّرت تساؤلاتٍ بالغة القسوة عن التناقض وحُدود المُناورة المقبولة سياسيًّا وأخلاقيًّا.
كانت مُعضلة المعارضة الأولى أنها أخفقت فى التوافق على مُرشّح، وبينما أبدى ثلاثة منها رغبتهم فى خوض السباق؛ انحازت لأحدهم بشكلٍ صريح. اتّخذ الانحياز طابعًا ناقضًا لمبدئية الائتلاف داخل الحركة المدنية، فتجاهل التساؤلات المُثارة عن اتصال هذا الشخص بالإخوان، أو لقاء بعض مُمثّليهم، وتحوّلت ساحة أحد أحزابها إلى منصّة استهدافٍ لمُنافسٍ آخر يضع وشاح التيّار. قبل إغلاق باب تقديم الأوراق بيومٍ واحد، احتضن الحزب مُؤتمرًا سُمِح فيه بوصف زميل لهم بأنه «أشباه مُعارضة»، ثم تقدّم الحزب نفسه عبر أحد قياداته بطعنٍ على الزميل؛ واضطرّ بعدها للمُناورة والإنكار، ثم تحسين الموقف بالتنازل عن الطعن أمام المحكمة الإدارية العليا؛ إلا أنّ ما وراء تلك الفوضى كان واضحًا إلى درجةٍ يستحيل تجاهلها، وربما أهم مُؤشّراته أن كثيرًا من الكيانات السياسية تعيش حالة سيولةٍ أيديولوجية وتنظيمية، وتنخرها الهشاشة والاعتبارات الشخصية، وأنّ توافقاتها الظرفية كانت لأغراضٍ عابرة، ولم تتأسَّس على تكتيكاتٍ وبرامج عمل واضحة.
وسط تلك الحالة الشعبوية يغيب المنطق والقانون. تجاهل الفاعلون الحزبيّون أن الطعن من غير ذى صفة، لأن هذا الحق موقوفٌ على المُرشّحين حصرًا؛ ومن ثمّ فإنه والعدم سواء ومآله الرفض أمام القضاء. كما تجاهلوا أنهم استعانوا فيه بورقةٍ مُزوّرة نشرها أحد أُجراء الإخوان ووكلائهم المُقنَّعين بالليبرالية، وثبت اصطناعها بمجرد قبول الهيئة الوطنية للانتخابات أوراق المُرشَّح المقصود، بصحيفة الحالة الجنائية التى قدّمها. كان الهجوم المُوجّه دافعًا وراء تصريح فريد زهران فى مُؤتمرٍ على هامش إحدى جولاته، بأنه ناشرٌ معروف منذ سنوات وليس عاطلاً؛ فى إشارة على ما يبدو إلى الشخص الذى تهجَّم عليه ويُسأل دائمًا عن عمله ومورد دخله؛ دون ردودٍ من جانبه. إنسانيًّا قد نتفهّم النقدَ المُضاد؛ لكنه سياسيًّا قد لا يكون مُوفّقًا؛ لأنه يُهدر الجهد فى معارك جانبية؛ وإجمالاً فإن حصيلة الأخذ والردّ تصبُّ فى اتجاه محنة الأبنية الحزبية، التى لو كان بعضها مُتّصلاً بحالة المجال العام؛ فإن أغلبها يخص تشوُّهاتها الداخلية وصراعات قادتها، وعدم القدرة على جَبر التمايزات الأيديولوجية وترشيد نقاط الخلاف؛ لصالح إنجاز تفاهماتٍ مرحليّة قادرة على إنعاش الأفكار والكيانات، وليست محصورة فى منافع الأفراد؛ خصوصًا راغبى الظهور.
بين المُرشّحين الأربعة ثلاثةُ رؤساء أحزاب؛ ورغم أنه لا مشكلة قانونية فى ذلك، والقيد الدستورى الحاسم يخص الرئيس فى ألّا «يشغل أى منصبٍ حزبى طوال مُدّة الرئاسة»؛ لكن قد يرى البعض أنّه اتساقًا مع التزام إبداء الجدّية، وباعتبار أن كل مُرشّح يسعى إلى المنصب بالضرورة؛ ومن ثمّ يضع ضمن احتمالاته المقبولة أن يُغادر موقعَه داخل الحزب؛ فقد يكون إيجابيًّا أن يُبادروا إلى ذلك، أو على الأقل أن يُعلنوا تجميد عضويّاتهم. وجاهةُ تلك الفكرة أنها تفتح الباب لتجديد الدم، وتُقدّم دليلاً عمليًّا على الإيمان بتداول السلطة، فضلاً عن أنها تُحرِّر حالة التأييد من الولاء لرأس الحزب، إلى الولاء للفكرة والعقيدة والبرنامج السياسى.. لا يقين ولا ادّعاء للعصمة قطعًا، وكلُّها مُجرّد رؤىً وتصوُّرات تقبل النقاش؛ لكنها مطلوبةٌ طالما نستهدف تنشيط المجال العام، ووضع كل الآراء على طاولة البحث والتطوير، وكلها نقلاتٌ ضروريّة على طريق بناء التراكم الخلّاق.
أهمُّ ما فى الجولة الراهنة أنها صحَّحت نفسها سريعًا. وصل إلى السباق من يُؤمنون بالتدرُّج والعمل الإصلاحى، وأخفق من تعاملوا مع الانتخابات باعتبارها «مواجهةً صفريّة» واستعاروا حماسة خيام التحرير أو سوء نيّة قنوات الإخوان؛ ليجعلوا التغيير مُرادفًا وحيدًا لتقويض منظومة الحكم وإحلال بديلٍ مُضاد لها بالكامل. تحتاج الأحزاب لشىءٍ من الإيمان بفضيلة السياسة، وبأنها زراعةٌ بالرىّ الدائم وليست مواسم عابرة، وتتطلَّب من مُعتنقيها الاشتغال بحساسية عالية على قِيَم الحركة الدائبة والأثر المُتنامى والتراكم الذى لا ينقطع. أثبتت الأحداثُ الإقليمية الأخيرة أن الإقليم بكامله بين مخالب ضباعٍ جائعة، وأن مصر ليست بعيدة من التحدّيات والامتحانات الصعبة، ودور السياسة أن تكون ظهيرًا للروافع المُؤسَّسية، تتولّى تنشيط حيويّة السلطات دون إخلال بأولوية تثبيت الجبهة الداخلية.. ربما تتّضح ملامح السباق اليوم، وتختار الوقائع رجالها؛ لكن الانتخابات فرصة يجب ألّا يُغامر أهل السياسة بتضييعها. كفاءة الأحزاب وكوادرها تتأكَّد عند صناديق الاقتراع، أو تهتزّ عندها، وعليهم وحدهم عبء الاختيار.