عينان اسمهما "سوزان".. قصة حب غيرت حياة عميد الأدب العربى طه حسين

السبت، 28 أكتوبر 2023 03:57 م
عينان اسمهما "سوزان".. قصة حب غيرت حياة عميد الأدب العربى طه حسين طه حسين وزوجته سوزان
عادل السنهورى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

"منذ سمع صوتها لم يعرف قلبه الألم".. هكذا قال عميد الأدب العربى طه حسين عن زوجته الفرنسية السيدة سوزان، وهى جملة تختزل معانى وأمورًا كثيرة فى حياته ورؤيته للحياة وقضاياها، فقد كانت عينه التى يرى بها كل شيء، ويحدد من خلالها مواقفه من صنوان القيم والعادات والتقاليد، وقضايا المجتمع الذى تركه وراءه فى طريقه للدراسة فى مونبلييه وباريس، وصدق بالفعل عندما قال ذات مرة لحبيبته وزوجته: "بدونك أشعر أننى أعمى".

رحل طه حسين من الشاطئ الجنوبى للبحر المتوسط إلى فرنسا عام 1914 للحصول على الدكتوراه، بعدما أوفدته الجامعة المصرية، وبعدها التقته "سوزان" ومهدت أمامه الطريق ليتعرف أكثر على ثقافة وحضارة الغرب، فتفتح وعيه على ثقافة وتقاليد وعادات الآخر بعينيها واختياراتها، وتشكلت المواقف وسكنت عقله، حتى لو كانت بداية لمواجهة منتظرة مع جدران كثيرة فى القاهرة.

تتوهج سوزان فى حياته وتنير عليه غربته، أحبته منذ لحظة التقائهما، فقد شغفها حبا وأحبها حبًّا جمّا. تزوجته رغم معارضة أهلها الذين وقفوا ضد العلاقة، ووصفوا ابن عزبة الكيلو بالمنيا بكلمات غليظة: "كيف تتزوجين أجنبيا أعمى ومسلما، إنه ضرب من الجنون"؛ لكنها حسمت أمرها وتمسكت به. هنا يدرك طه حسين أنه ولد مرتين، أهمهما التقاء زوجته التى صار يرى بها الدنيا.

قراءات يومية متبوعة بنقاشات حول الأدب واللغة الفرنسية، جعلت من سوزان "أستاذته" كما يصفها في كتابه "الأيام" بعد حين: "أنا مدين لها أن تعلمت الفرنسية، وأن عمّقت معرفتى بالأدب الفرنسى، وأنا مدين لها أن تعلمت اللاتينية ونجحت فى نيل إجازة الآداب، وأنا مدين لها أخيرًا أن تعلمت اليونانية واستطعت أن أقرأ أفلاطون فى نصوصه الأصلية". كان لسوزان عظيم الأثر فى حياته، فقامت بدور القارئ وأمدته بالكتب المنقوشة بطريقة "برايل" لتساعده على القراءة بنفسه، كما كانت الزوجة والصديق الذى يدفعه للتقدم دائما، وأثمر الزواج الذى استمر 60 عاما عن ابنين: أمينة ومؤنس. عاشت معه راضية يقترن اسمها باسم عميد الأدب العربى، وهى ابنة الحضارة الغربية بعاداتها وتقاليدها وتشريعاتها وقوانينها الصارمة

وُلدت "سوزان" عام 1895، أى بعده بسبع سنوات، ونشأت نشأة فرنسية كاثوليكية، واشتغلت بالتدريس فى بداية حياتها، لتتسبب أحداث الحرب العالمية الأولى فى تهجيرها مع عائلتها إلى مدينة مونبلييه جنوبى فرنسا. وقتها تعرفت إلى "طه" الشاب المصري طالب الدراسات العليا مكفوف البصر، الذى كان فى حاجة لمن يقرأ له الكتب والمراجع الدراسية.

تقول عقب وفاة الزوج والحبيب: "ذراعى التى تمسك بذراعك لا فائدة منها، ويدى بدونك تبدو بلا جدوى"، ولم تطل حياتها بعده، حيث توفيت بعد سنوات قليلة. وكما تقول فى كتابها "معك" الصادر بالعربية والفرنسية: "كان حبًّا من أول همسة، وزواجًا متينًا لم تفتُر فيه المحبة، ولم يتوقف أحد الزوجين فيه عن مساندة ودعم الآخر، وكما تحدَّيَا عقبات عديدة ليتزوجَا، فقد تغلَّبا معًا على مصاعب الحياة في رحلتهما الطويلة غير التقليدية، وهو الكاتب والمترجم والأكاديمى والمنشغل بالشأن العام، وهو الظاهرة الأدبية والثقافية المصرية والعربية الفريدة، والشخصية التى لن تتكرر فى تاريخ الأدب العربى".

"إننا لا نحيا لنكون سعداء" عبارة على لسان طه حسين، تفتتح بها سوزان كتابها عنه، أو بالأدق كتابا عنهما، قصة حياة امتدّت قرابة 60 عاما. شرعت سوزان فى تدوين المذكرات بعد وفاة زوجها، وفى 1977 أصدرت دار المعارف ترجمة الكتاب، بينما صدرت طبعته الفرنسية للمرة الأولى عام 2011، بعد سبعة وثلاثين عاما من الطبعة العربية.

كانت سوزان تكتب رغم ضعف نظرها، وتأثر عينيها بمرض تكثف العدسة، وإجرائها عملية جراحية ناجحة، لكنها تخطت الصعوبات وسوّدت خلال أشهر مئات الصفحات فى وحدة تامة بمنزل العميد فى الهرم المعروف بـ"رامتان"، حيث كانت تقيم منذ رحيله بمفردها، وكانت المرأة التى تساعدها على إدارة المنزل تنصرف بعد الظهر، بينما تواصل سوزان الكتابة.

يبدأ كتاب "معك" باستعادة سوزان لمناسبة مقولة طه حسين الافتتاحية، فتروى: "عندما قلت لى هذه الكلمات عام 1934 أصابنى الذهول، لكننى أدرك الآن ماذا كنت تعنى، وأعرف أنه عندما يكون شأن المرء شأن طه، فإنه لا يعيش ليكون سعيدا، وإنما لأداء ما طُلب منه". الكتاب فى شكل الرسائل، تستعيد فيها لحظاتهما، وتحكى محطات حساسة مر بها الوطن، ومنها فترة ما بعد حرب أكتوبر، وكانت أيام مرضه الأخيرة، ثم تعود لتحكى عن لحظات لقائها فتقول: "أول مرة التقينا فى 12 مايو 1915، فى مونبيلييه، ومنذ زواجنا كنا نحتفظ لهذا اليوم بوضع خاص، لم يكن ثمة شىء فى ذلك اليوم ينبئنى بأن مصيرى كان يتقرر، ولم يكن بوسع أمى التى كانت بصحبتى أن تتصور أمرا مماثلا، وكنت على شىء من الحيرة، إذ لم يسبق لى فى حياتى أن كلمت أعمى".

تحكى عن الأستاذ الإيطالى الذى كان يدرس لطه حسين اللغة اللاتينية، وشاهدها تزوره فى غرفته وتقرأ له بعض الفصول من كتاب فرنسى، وتنبأ بأنهما سيتزوجان بقوله: "سيدى، هذه الفتاة ستكون زوجتك". كما تحكى عن عودة طه حسين لمصر إبان الحرب العالمية الأولى، فى ظروف شديدة القسوة، حيث كان حزينا لعدم متابعته دراسته، التي كانت لا تزال في بدايتها، وأخيرا حصل مع آخرين على إذن بالعودة عام 1916.

حضر الفن بقوة فى علاقة طه حسين وزوجته، بالموسيقى والرسم والغناء نسج الاثنان تفاصيل ملأت حياتهما وعزّزت ودادهما، عن البدايات تحكى: "لم نكن أغنياء، لكن طه وجد وسيلة يتمكن بها من إهدائى بمناسبة عيد ميلادى، فقد اشترى من شارع بونابرت نسخة من لوحة "عذراء لندن" لبوتشيللى. هذه اللوحة بقيت دومًا فى غرفتى". وتتابع: "كانت أجمل لحظاتنا الفترات التى نقضيها ونحن نستمع إلى الحفلات الموسيقية التى كانت تُقدم كل أحد فى السوربون، لم تكن باهظة، إلا أننا كنا نضطر أحياناً للاستغناء عنها، وكنا نعزى أنفسنا بقراءة كتاب جميل".

الأصدقاء كانوا أحد أسباب ثراء حياة الزوجين وصخبها، ربطتهما علاقات مع مصريين وعرب، وأوربيين وأمريكيين، من المثقفين والمستشرقين ورجال الدين، وعندما كان يحتاج طه بعض العزلة والتقرب من الطبيعة، كانت تصحبه سوزان إلى فرنسا وإيطاليا. فى سنواته الأخيرة خفت وهج الحياة، قلّ السفر وغاب الأصدقاء، بعد تدهور صحته نتيجة آلام فى العمود الفقرى أثرت على النخاع الشوكى، فأجرى عملية جراحية بات يمشى بعدها بصعوبة، تستعيد سوزان تلك السنوات العصيبة، مؤكدة أنها لم تكن بمجملها عقيمة: "كانت مفيدة فى كثير من الأحيان، وجميلة أحياناً، كنا أكثر قرباً واحدنا من الآخر".

تقول سوزان إنه لم يكن يبدو عليه المرض إطلاقًا ذلك السبت، 27 أكتوبر، ومع ذلك ففى نحو الثالثة من بعد الظهر شعر بالضيق. كان يريد أن يتكلم، لكنه كان يتلفظ الكلمات بعسر شديد وهو يلهث. ناديت طبيبه والقلق يسيطر عليَّ. لكنى لم أعثر عليه، فركبنى الغمُّ. وعندما وصل كانت النوبة قد زالت، وكان طه قد عاد إلى حالته الطبيعية. وفي تلك اللحظة وصلت برقية الأمم المتحدة تعلن فوزه بجائزة حقوق الإنسان، وانتظاره في نيويورك فى العاشر من ديسمبر، وكان الطبيب هو الذى قرأها له مهنئًا إيَّاه بحرارة، غير أنه لم يُجب إلا بإشارة من يده كنت أعرفها جيدًا، كأنها تقول: "وأيّة أهمية لذلك؟" وكانت تعبِّر عن احتقاره الدائم، لا للثناء والتكريم، وإنما للأنوطة والأوسمة والنياشين.

في لحظة الموت وجلالها قال لها "أعطينى يدكِ" وقبَّلَها.. نادانى عدَّة مرات، لكنه كان ينادينى على هذا النحو بلا مبرر منذ زمن طويل. ولما كنت مرهقة للغاية، فقد نمت، نمتُ ولم أستيقظ وهذه الذكرى لن تكفَّ عن تعذيبى.

دُفن طه حسين بالقرب من مسجد الإمام الشافعى، ولم يُسمح لزوجته سوزان بالذهاب إلى المقبرة يوم الجنازة، ربما لتلافى الانفعال والإرهاق الكبير، كما أن "أمينة" ابنته لم تذهب أيضًا لتبقى بصحبة والدتها. بعدها بأيام قررت "سوزان" أن تذهب لأول مرة إلى المقبرة، كان ذلك فى نوفمبر 1973، ويوم 26 يوليو 1989 توفيت فى القاهرة، عن عمر ناهز 94 عاما، قضت 75 منها فى مصر، ودُفنت فى المقبرة اللاتينية بالقاهرة القديمة.

طه حسين 3
طه حسين









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة