تبدو نجاعة الدور المصري في أزمة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بمثابة شهادة نجاح، في التعامل مع التحدي الأصعب الذي واجه المنطقة، في السنوات الأخيرة، وتحديدا منذ حقبة "الربيع العربي"، باعتبارها محاولة صريحة لاستنساخ حالة الفوضى التي ضربت المنطقة، عبر العديد من المسارات، أولها، الإفراط في نطاق الاعتداءات والانتهاكات المرتكبة في القطاع بشكل غير مسبوق، منذ عقود طويلة من الزمن، بينما يبقى المسار الثاني، عبر الدعوات التي تبناها سلطات الاحتلال لتهجير سكان غزة، وما يترتب عليه ذلك من أزمات لدول الجوار، والتي تمثل الداعم الرئيسي لفلسطين، في حين اعتمد المسار الثالث على ممارسة الضغوط الدبلوماسية، عبر الحلفاء الغربيين، للحصول على قدر من الشرعية، سواء بالمسار الأول، عبر مواصلة العدوان، من جانب، أو بالمسار الثاني، من خلال الترويج لدعوتها المشبوهة، من جانب آخر، ناهيك عن قطع الطريق عن وصول المساعدات الإنسانية، من جانب ثالث.
والحديث عن دور مصر في التعامل مع أزمة غزة، ربما لا يقتصر على الجوانب المرئية للعيان، وهي في جوهرها كثيرة ومتنوعة، على غرار الدعوة إلى عقد قمة دولية، على أراضيها، وهو ما يعكس تعزيز للنهج "الجماعي" الدولي، وما شهدته من استجابة دولية كبيرة، بالإضافة إلى العمل "الثنائي"، في إطار الزيارات واللقاءات التي عقدها الرئيس عبد الفتاح السيسي مع العديد من قادة وزعماء العالم، وعلى رأسهم القوى الأوروبية البارزة، للتنسيق بشأن العديد من القضايا، سالفة الذكر، وهو ما يعكس رغبة ملحة في "بناء" حالة من التوافق الدولي، حول عدد من "الثوابت" التي يمكن من خلالها الانطلاق نحو التهدئة، ووصول المساعدات الإنسانية، ومنها إلى وقف إطلاق النار، وحتى مرحلة التفاوض النهائي، وصولا إلى "حل الدولتين" باعتباره أساس "الشرعية الدولية" والتي ارتضاها المجتمع العالمي قبل عقود.
ثمة جانب غير مرئي، يتجسد في الكيفية التي أدارت بها الدولة المصرية لمعركتها في مواجهة العدوان الإسرائيلي، والذي وإن بدا مقتصرا على القطاع، ولكنه حمل في طياته أبعادا تجاوزت تلك الرقعة الجغرافية، عبر تلك الدعوات التي أطلقها، وعلى رأسها دعوة التهجير، والتي تحمل إلى جانب كونها محاولة لاستعادة الفوضى في منطقة الشرق الأوسط، جراء ما قد يترتب عليها من ضغوط كبيرة على دول الجوار، في ظل تداعياتها الاقتصادية والأمنية الكبيرة، فإنها تمثل محاولة صريحة لـ"دق إسفين" في علاقة تلك الدول بفلسطين وقضيتها، عبر تأليب الرأي العام عليها، بالإضافة إلى تشويه صورة تلك الدول أمام الفلسطينيين، من جانب، بالإضافة إلى إضفاء قدر من التوتر على علاقة دول الجوار ببعضها، في ظل الإجراءات المشددة التي سوف تتخذها لحماية حدودها، وبالتالي محاولة تصدير النازحين إلى الدول الأخرى، من جانب آخر، بينما تساهم بصورة كبيرة في تراجع دور تلك الدول، في ظل انشغالها بأزماتها الداخلية والبينية، من جانب ثالث، وهو ما يصب في نهاية المطاف في خانة تهميش القضية الرئيسية.
وهنا كانت الحاجة ملحة، في رؤية الدولة المصرية إلى حشد أدواتها، سواء العسكرية، في ظل الدور الذي يلعبه الجيش في حماية الحدود، في ظل مثل هذه الأوضاع، والدبلوماسية، في الإطارين الفردي والجماعي، على النحو سالف الذكر، بينما تبقى هناك أدوات أخرى، عملت معهما بانسجام تام، وعلى رأسها الإعلام، والذي يمثل "رأس حربة" في التعامل مع الأزمة الحالية، من خلال توضيح الحقائق للرأي العام الداخلي، والإقليمي، خاصة فيما يتعلق بما تحمله الدعوات المشبوهة في طياتها من نوايا خبيثة تهدف بصورة رئيسية إلى تصفية القضية الفلسطينية، ناهيك عن فضح الانتهاكات غير الإنسانية التي ارتكبها الاحتلال، والتي لم تقتصر على قصف المدنيين والمستشفيات ودور العبادة، وإنما امتدت إلى الوقوف أمام محاولات توصيل المساعدات الغذائية لملايين السكان المحاصرين، في امتداد لحالة من الوحشية التي انتهجتها إسرائيل.
ولعل مقال الرئيس السيسي في جريدة "الأهرام" العريقة، رغم كونها تأتي بمثابة تكريم لأحد أعرق المؤسسات الصحفية في المنطقة بأسرها، احتفالا بصدور عددها الـ"50" ألف، إلا أن التزامن بينه وبين الأحداث في غزة، يمثل تعزيزا صريحا ودعما صارخا لأحد الأدوات الهامة والرئيسية التي لعبت دورا رئيسيا في إدارة الأزمة الراهنة، وهو ما أشار إليه الرئيس صراحة في مقاله.
الجانب التنموي هو الأخر يمثل أحد آليات العمل المصري، رغم تواريه خلف الصراع والمستجدات الأخيرة، حيث يبقى انعقاد قمة "القاهرة للسلام" في العاصمة الإدارية الجديدة، والتي تمثل "درة التاج" في عهد "الجمهورية الجديدة"، بمثابة رسالة للعالم مفادها أن مصر ومن ورائها المنطقة العربية لن تضحي بما تحقق من إصلاح، في سبيل تحقيق حلم "تصفية القضية"، كما أنها ليست مستعدة على الإطلاق العودة، ومنطقتها، إلى دائرة الفوضى، بعدما تحقق من استقرار إقليمي، ساهم في سلسلة من المصالحات العربية الإقليمية، في السنوات الأخيرة، مما أزعج إسرائيل بصورة كبيرة، وضرب مخططاتها الهادفة إلى تقويض حل الدولتين.
وهنا يمكننا القول بأن الدولة المصرية باتت تحمل في جعبتها أدوات متنوعة في مجابهة الأزمات في محيطها الإقليمي، فأصبح دورها أكثر نجاعة، في ظل قدرتها على تطويع كل أداة في خدمة الأخرى، وهو ما انعكس على نجاحات كبيرة ارتبطت في تحقيق التوافق حول العديد من النقاط، أهمها رفض مخطط التهجير، والحاجة الملحة إلى التهدئة وضرورة وصول المساعدات الإنسانية، بينما تواصل مساعيها نحو البناء على ما سبق، فيما يتعلق بملفات الأسرى والوقف التام لإطلاق النار، وحتى العودة إلى المفاوضات في إطار حل سياسي للأزمة.