التصعيد فى الأراضى المحتلة، تغيير كيفى لتراكمات متتالية تم تجاهلها من المجتمع الدولى، وتواصلت استفزازات واعتداءات من قوات الاحتلال على مدى شهور أمام سمع وبصر العالم، ومن دون تدخل أو محاولة لمواجهتها، بجانب استمرار سلطات الاحتلال فى ضم الأراضى وطرد الفلسطينيين، وتجاهل أى اتفاقات سابقة يفترض أن تتطور إلى دولة فلسطينية.
تتصور الحكومة الإسرائيلية أنها مطلقة اليد فى طرد الفلسطينيين، بل إن سكان المستوطنات الذين ظهروا مرعوبين، مارس بعضهم العدوان ضد الفلسطينيين، طاردوهم من منازلهم وطردوهم، ظنا أن القضية الفلسطينية انتهت لمجرد أن الدول الكبرى ليست معنية أو متفرغة ومشغولة بمصالحها ومناوراتها وصراعاتها.
كان المتوقع أن تنفجر الأوضاع، وأن ينتفض الفلسطينيون فى مواجهة هذا العدوان والاستفزازات فى الأقصى والأراضى المحتلة، خاصة أن تجارب العقود الماضية تثبت أنه لا يمكن أن يتخلى الفلسطينيون عن حقهم، أو يخضعوا لواقع خارج العقل والتاريخ، يفترض أن يتعلم الإسرائيليون من الانتفاضتين الأولى والثانية، والعمليات التى تنفذها المقاومة، وتمثل اختراقا ونسفا لأنظمة الأمن العبرية.
آخر مواجهة كانت فى أغسطس 2022، نجحت الدولة المصرية فى إقرار وقف إطلاق النار بقطاع غزة بعد اتصالات مكثفة مع المقاومة والجانب الإسرائيلى، وتكللت التحركات المصرية بالنجاح، يومها أكد الرئيس عبدالفتاح السيسى أهمية تجديد الأمل لدى الشعب الفلسطينى فى تحقيق السلام المنشود والحصول على حقوقه المشروعة وفق المرجعيات الدولية، وحتمية إنهاء دائرة العنف والتصعيد المتكرر، سعيا لفتح الباب أمام فرص وجهود التسوية وإطلاق عملية السلام بين الشعبين الفلسطينى والإسرائيلى، التى من شأنها تغيير واقع المنطقة بأسرها.
لقد بدا خلال السنوات الأخيرة ومع تحولات المنطقة والعالم، والصراعات وإعادة رسم خرائط النفوذ، أن القضية الفلسطينية تراجعت من الاهتمام العالمى، وهو ما دفع سلطات الاحتلال أن تتصور كونها تفرض سيطرتها، وتتوسع وتبتلع المزيد من الأراضى الفلسطينية، بالمخالفة للقوانين الدولية أو حتى لاتفاقات السلام مع الفلسطينيين، وتجاهل التحذيرات التى أطلقتها الدولة المصرية، وبيانات القمم العربية بضرورة استعادة مسار السلام وحل الدولتين.
وكانت هناك دائما عمليات نوعية للمقاومة الفلسطينية تشير إلى أنه ليس لدى المقاومة ما تخسره فى مواجهة الصلف والغرور من سلطات الاحتلال، ونجحت المقاومة فى خداع أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية، وأعادت تنظيم صفوفها، وطورت قدراتها، ونفذت عملية «طوفان الأقصى»، التى تمثل إحدى أكبر العمليات العسكرية الشاملة، من حجم ما حققته من خسائر داخل إسرائيل، وهى خسائر مادية فى الأرواح والمعدات، فضلا عن شكل الصدمة التى أصابت الاحتلال، فقد تم استهداف قيادات وآليات من جيش الدفاع، بجانب رعب بين سكان المستوطنات، وعشرات الأسرى، وحسب مصادر الجيش الإسرائيلى هناك محاولات لتحديد الرقم الدقيق لمن تم أسرهم.
واعترف الإسرائيليون أن العملية تمثل فشلا استخباراتيا، بجانب الفشل الأمنى، لم تصمد القبة الحديدية ولا أنظمة الاستشعار والدفاع الصاروخى المتطورة فى مواجهة وابل الصواريخ الفلسطينية، التى نجحت فى اختراق هذه الأنظمة الدفاعية، وحسب ما أعلنته وسائل إعلام إسرائيلية، هناك 600 قتيل وأكثر من 2000 مصاب منذ بدء «طوفان الأقصى»، منذ أمس الأول السبت وخلال يومين فقط، وهى أرقام تشير لضخامة الحدث، وتنقله إلى حرب واسعة تستدعى تحركا دوليا، وأن تستوعب الولايات المتحدة وأوروبا الأمر باعتباره تحولا استراتيجيا كبيرا.
الواضح هو التعامل بازدواجية، حيث أعلن الرئيس الأمريكى جو بايدن أن الولايات المتحدة تقف إلى جانب إسرائيل، وأن الأخيرة لها الحق فى الدفاع عن نفسها، واعتبر الأعمال التى نفذتها المقاومة إرهابا، وهو انحياز واضح، وتجاهل للأسباب التى قادت إلى انفجار الأوضاع بهذا الشكل.
عملية «طوفان الأقصى» تمثل تحولا استراتيجيا مهما فى موازين الصراع، ولم تنجح تهديدات الاحتلال فى التغطية عليه، بل إن الحالة الهستيرية التى أصابت رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وجيش الاحتلال، تؤكد قوة عملية المقاومة، وفشل إسرائيلى، وفقدان السيطرة فى مواجهة صواريخ أربكت الاحتلال.
هذه التحولات يفترض أن تدفع الدول الكبرى والمنظمات الدولية لاتخاذ خطوات لحماية الفلسطينيين من الانتقام الإسرائيلى، الذى أعلنه نتنياهو وقيادات جيش الدفاع، وقد سقط بالفعل عشرات بالرصاص ومئات الجرحى، وقد سعت مصر إلى وقف الانتقام والعدوان، وأجرى وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكن محادثات مع نظيره المصرى سامح شكرى، على أمل أن تساعد مصر فى وقف الهجوم، وترى مصر أن الأحداث تتطلب موقفا دوليا لوقف التصعيد ومعالجة أصل القضية بحقوق الفلسطينيين، وحرص الرئيس عبدالفتاح السيسى فى اتصال مع ملك الأردن عبدالله الثانى بن الحسين، على التشديد على أولوية تضافر الجهود الإقليمية والدولية لوقف التصعيد وتدهور الأوضاع، وتعزيز جهود تحقيق التهدئة، وصولا لتسوية شاملة عادلة للقضية الفلسطينية، على أساس حل الدولتين.
مصر موقفها واضح، وهى الطرف الأكثر إدراكا لمفاتيح الحل، ويمكنها فى حال استماع الأطراف أن تقدم مبادرات للحل، وعدم الانسياق إلى انتقام، يمكن أن يشعل صراعا تصعب السيطرة عليه.