تنامُ فلسطين على وجعٍ وتصحو على دم. أدمن الاحتلالُ اللعبة؛ فاستمرأ تكرارها إلى ما لا نهاية؛ ثم أفاق على أشدِّ كوابيسه دمويّة منذ خمسين سنة. مهما تعدَّدت التفسيرات والأسباب، وحُمِلَت الخطوة على مشاريع عقائدية أو حسابات إقليمية؛ يظلُّ فى الرسالة شىءٌ من وجع الفلسطينيين الدائم. عندما أطلقت المُقاومة عمليّتها المُوسَّعة «طوفان الأقصى» فى العُمق، كانت تُصرِّحُ بصرختها المكتومة، وتُمارس حقًّا لا يجرؤ أحدٌ على سَلبها إيّاه.. الفرحة المُمتدّة من الماء للماء، والألم والدعوات، وهديرُ المنصَّات الذى لم يهدأ ساعةً، لا تُلخِّص نظرةَ الأجيال العربية الجديدة لعدالة القضية فقط؛ إنما تعكس تبرُّمًا عميقًا من مُمارسات إسرائيل، واهتزازًا للثقة فى خطابات السلام وخداعاته، وفى المنظومة الدولية المًتفرِّغة لتسويد مزيدٍ من الصفحات فى كتاب المأساة، بدلاً من إغلاقه أو اقتراح عنوان جديد.. هل فُوجئ العالم بأنّ الجمرَ مُتّقد تحت الرماد؟ إذن فلتكُن مهمَّة إطفاء عاجلة، وعادلة، إن كانت الإنسانية مُستعدّةً للنظر فى المرآة بحياديّةٍ وتجرُّد.
يحقُّ للفلسطينيين أن يُدافعوا عن أنفسهم دائمًا، وفى أىّ وقتٍ ومكان، وأن يتصدّوا لغطرسة الاحتلال دون قيدٍ أو شرط. ربما يراها البعض مُغامرةً غير محسوبة؛ لكنها مُستحقَّةٌ ومشروعة، وهذا من نافلةِ القول التى لا تحتاج تكرارًا للإقرار والتثبيت. لا خلاف فى شرعيّة المقاومة؛ إنّما يقع تعدُّد الرؤى فى نقطة المصلحة الظرفيّة والمُمتدّة، وحسابات الربح والخسارة، وبناء مسارات تتحصَّن بالإجماع الوطنى. والواقع أن خطاب السلام بات مُستهلَكًا من طول ما ابتذلته الحكومات الإسرائيلية، وأحاديث الحلّ السياسى لم تعُد مُقنعةً للقريب والبعيد، وقد مرَّت السنويّة الثلاثون لاتفاق أوسلو قبل أسابيع، وما عاد سوى ذكرى بائسةٍ عن أساليب المُناورة والاحتواء، وآليّة إجهاض الأحلام بالمُماطلة والتضليل. أرادت الدولة العبرية التحلُّل من عبء الأرض المُحتلَّة، واختراع سُلطةٍ شكليّة؛ لتكون شرطيًّا ينوب عنها فى الحراسة. وفى ناحيةٍ أُخرى تخبَّطت المُقاومة منذ الانتفاضة الثانية، وتحوُّلها عن استقامة السلاح إلى استباق طريق الحُكم وتحالفات الأيديولوجيا، وخَلط السياسى بالجهادى، وما وقع من شِقاقٍ بين الفصائل نتيجة التحاق بعضها بمشاريع إقليمية «فوق وطنية». قد تكون الجولة الجديدة مَخرجًا لترميم البيت، وقد تُسفر عن تصدُّعاتٍ أعمق؛ والرهان مُعلَّق على ما تتأهَّب له قنوات الاتصال بين الحركات بتلاوينها، وليس بما يجرى على خطِّ المُواجهة مع العدوّ فقط.
«طوفان الأقصى» عملية نوعيّة، لا تُشبه أيّة سوابق جرَّبتها إسرائيل. نحو 5 آلاف صاروخ وقذيفة على النطاق العريض، من جنوب تل أبيب لشمال غزّة، ومُستوطنات الغلاف حتى بئر السبع وعراد فى النقب، وتسلَّل مُقاتلو الفصائل برًّا وبحرًا وبالطائرات الشراعية؛ لتقع اشتباكات فى 21 نقطة، فضلاً عن السيطرة على آليّات وأَسْر جنود. الحصيلة الأوّليّة بحسب بيانات عبرية تجاوزت 600 قتيلًا و2000 مُصاب، والضربة الانتقامية أسقطت مائتين وخمسين شهيدًا وقرابة ألفى جريح من القطاع، والتحديثات مُستمرّة والأرقام مُتصاعدة؛ ما يُرشِّح أن يتّجه الموقف لمُواجهةٍ شاملة، ما لم تنجح جهود التهدئة الإقليمية والدولية. المُؤكَّد أن المقاومة تعى حجم ما أقدمت عليه، وتتوقَّع الردود الجنونية، ويُفترَض أنها بذلت جهودًا مُسبقة لتجهيز البيئة المدنية للضربات، وتخفيض خسائر الأرواح، كما يتعيَّن أن تنفتح قنوات التنسيق مع السُّلطة وبقيّة قوى الضفَّة الغربية؛ لتتكامل الإدارة السياسية للمشهد الوطنى مع تطوُّرات الجبهة. والخطر أن ينقطع حبلُ الوصل، لأنّ فى ذلك تقويضًا لقوّة الجميع، بجانب ما يحمله من إشاراتٍ مُزعجة لجهة اتّصال العملية برؤيةٍ إقليمية ترعاها جهاتٌ بعينها، أو توظيفها فى مُناكفاتٍ داخلية، تتوخَّى إعادة ضبط موازين القوى وترتيب خلافة «أبومازن». قد تُزاح «فتح» عن موقعها التاريخى لصالح حماس؛ لكنّ «منظمة التحرير» تظلّ اللباس الشرعى للقضية، والحركة ترفضها ولا تحوز عضويّتها، وينبغى ألا تُضحِّى صراعات الفصائل بالمكسب الوحيد من أوسلو، وبالصيغة السياسية والاعتراف الدولى اللذين حفظتهما السنوات ومسيرة النضال الطويلة للمظلَّة الجامعة.
شرفُ المقاومة ليس محلَّ شكٍّ؛ لكن ارتباكات السنوات الماضية قد تُثير فى نفوس البعض تفسيراتٍ لها ما يُعزِّزها. قبل شهور، وبالتزامن مع الاتفاق السعودى الإيرانى فى بكين، أطلقت مجموعات فلسطينية صواريخ من لبنان. هيمنةُ المُكوّن الشيعى على الدولة لا تسمح بإنجاز الاستعراض دون اتفاقٍ وتنسيق، والأمر نفسه فى اشتباكات مُخيّم «عين الحلوة» عقب اغتيال القائد الميدانى لحركة فتح. صحيحٌ أن «حماس والجهاد» أنكرتا علاقتهما بالصدام الدامى؛ لكن بعض القادة الميدانيِّين زاروا الضاحية، والتقوا رموزًا حزبية وأمنيّة، ثمّ تجدَّدت المُواجهات. لاحقًا نفّذ الحوثيّون ضرباتٍ ضد تمركزاتٍ للتحالف العربى فى اليمن وعلى حدود المملكة، رغم أجواء التهدئة. قد يبدو المشهد تفعيلاً لنظرية «وحدة الساحات» التى تُدار من بغداد لدمشق وبيروت وغزّة وصنعاء، كأوراق ضغطٍ لصالح أجندة إقليمية. إن كانت صحوةُ المُقاومة فى «غزّة» مُنفصلةً عن ذلك، فقد تُؤسِّس لتصوُّرٍ وطنى جديد أمام الاحتلال، بعد شيخوخة أوسلو والحاجة لتجديد دماء السلطة، وإن كانت جزءًا منه؛ فإنها تُرسِّخ ارتهان القضية لحسابات المحاور، وقد تتكبَّد الكُلفةَ الباهظة وحدها، قبل أن تجد نفسها مُضطرّةً للتوقُّف، حال التوصُّل لتوافقات تصون مصالح آخرين غير الفلسطينيين.
لا يُمكن تقييدُ حقِّ المقاومة بمواسم أو توازنات؛ لكن تظل الفاعليّة رهنَ إجادة الظرف والمواقيت.. الولايات المُتّحدة بادرت للتنديد، وأعلنت مُساندتها لإسرائيل وحقّها فى الردِّ، ومنحتها 8 مليارات دولار عاجلة، وإن كان ذلك عاديًّا ومُتكرّرًا؛ فإنّه اليوم محكومٌ باعتباراتٍ سياسيّة ضاغطة. دخلت إدارة «بايدن» أجواء الانتخابات المُنتظرة بعد سنة، وتجتهد لابتكار أوراق تسويق تُعوّض إخفاقاتها الدولية؛ منها اتفاق تطبيعٍ جديد. عمليّة «طوفان الأقصى» تُهدِّد التقارب، أو بالأحرى تُجمّده تمامًا فى المدى القريب، والأثر نفسه يطال مشروع الممرّ الهندى لأوروبا، كما أن تأثير اللوبى اليهودى على بطاقة البيت الأبيض، لا يترك خيارًا للديمقراطيين إلّا التطرُّف فى دعم نتنياهو، رغم الشقوق والتصدُّعات البائنة فى علاقتهما. يُضاف لذلك أن التحالف اليمينى المُكوِّن لأسوأ حكومات إسرائيل عبر التاريخ، تلقَّى ضرباتٍ داخلية مُوجِعة، وربما قاربَ السقوط. أُثيرت انتقاداتٌ حادّةٌ للتسلُّط والإخفاق، كجزءٍ من آثار النزعة الأرثوذكسية لابتلاع مدنيّة الدولة؛ لكنّ صيغة «جيش الشعب» قد يُعاد بناؤها مُجدّدًا تحت نيران القذائف. لا يقدح ذلك فى مَسلك المُقاومة، ولا ولايتها المُطلقة على اختيار لحظة المُواجهة؛ إنّما يجب ألّا يكون بعيدًا من الأذهان فى تقييم التجربة، وفى استقراء مآلاتها المُمكنة.
هناك رمزيّةٌ لا يُمكن إغفالها؛ أن الهجوم جاء فى اليوم التالى لذكرى حرب أكتوبر. كانت الضربة المصرية تحوُّلاً جيوسياسيًّا عميقًا، لناحية أنها أوّل انتصارٍ عربى على إسرائيل، وأوّل موجة انكماشٍ، وأفقدتها المُبادأة والأرض والسُّمعة الدعائية؛ لكنها فى الأخير كانت فيضانًا من الخارج.. اليوم يتفجَّر الطوفان وتعلو الأمواج داخل البيئة الآمنة، وفى عُمق البيت الذى يتوسَّعون دائمًا لحمايته من أعداء الطوق. تلازُم الحدثين زمنيًّا قد يرفع منسوب اللوثة، ويُثير شهيّة الصهاينة للدم؛ كأنهم يثأرون من هزيمة «يوم كيبور» بأثرٍ رجعى. جُرحُ الكرامة، مع فائض العنف المُعتاد، يضعان المشهد الفلسطينى أمام تحدٍّ صعب، وإن كانت المُقاومة تُجيد المُناورة والتخفّى وحماية كوادرها؛ فإنّ المدنيِّين يظلُّون هدفًا عاريًا، ولم يحدث أن تورّع الإسرائيليون عن الخوض فى دمائهم. إن كانت الضربةُ قياسيةً فى إيلامها للعدوّ، وتلطيخ شرفه أمام مواطنيه والعالم؛ فإن خسائرها من الشهداء والمُصابين ستكون قياسيّةً أيضًا، ويتطلَّب ذلك عملاً سياسيًّا وإعلاميًّا مُنسَّقًا؛ لكشف جرائم الاحتلال وتعريته أخلاقيًّا، والموازنة بين السلاح والسياسة، وأن تشتغل قوّة القتال على ترقية التكامل مع دواليب السلطة، بدلاً من الاستئثار بالمشهد، وصرفه فى تعميق الانقسامات البينيّة.
وقع الهجوم على غلاف غزّة، وهو جبهةٌ لصيقة يُفترَض أنها محطُّ خطرٍ دائم، وأكثر تحوّطًا وجاهزية لامتصاص الضربات وصدّها، لكن ما حدث عكس ذلك تمامًا؛ فغابت إسرائيل بكاملها لعشر ساعاتٍ قبل أن تحضر بمظهرٍ هَشٍّ وملامح ذاهلة. الاحتلالُ فى وضعٍ بائس؛ خسارته غير مسبوقةٍ، والائتلاف الحكومى مُهدَّدٌ.. نتاجُ ذلك أنه سيعيش سُعارًا شرسًا، التصعيد لم يصل مداه الأقصى، وقد تتطوَّر الهجمة على القطاع لاقتحامه بريًّا، رغم مُخاطرة الانزلاق فى مُستنقعٍ مُوحِل، وسواء تحضَّرت المُقاومة بالخطط والأكمنة أو تلقّت الغزو بكفوفٍ فارغة، فإن الذئب الجريح لن يتهاون فى نهش كلِّ ما تطالُه مخالبه؛ والأمر بين احتمالين: أن تبنى العملية جدارًا معنويًّا يكبحُ انفلاتَ إسرائيل، ويمنعها من استسهال الذهاب للتصعيد مُستقبلاً، أو يُغريها بأن تنتفض ضد وضعيّة «غزّة»؛ فتعمل لاستئصال الفصائل النشطة وتكسير أنياب القطاع. حدود الردِّ، ومداه، وتنسيقُ الحلفاء وهل يدخل آخرون على الخطّ، تُوسِّع مروحةَ الاحتمالات بين أن تظلَّ المواجهةُ محصورةً فى الجنوب، أو تتفرَّع إلى الضفَّة، وربما للجبهة اللبنانية ومن ناحية سوريا، ووقعت مناوشات بالفعل فى «كفر شوبا» وردّت إسرائيل. المُواجهة الإقليمية الشاملة، على ضعف فُرصها، ستكون وافرة الخسائر؛ لكنها ستأكل تحالف الليكود، وقد تُعيد بناء توازنات بعض الساحات المُتقاطعة.
بياناتُ «الطوفان» تحدَّثت عن مسلسلٍ من الأعمال العدائية، وسقوط مئات الشهداء منذ بداية العام، وعن اقتحامات الأقصى المُتكرِّرة، ورفض دعواتٍ لمُبادلة الأسرى.. العملية ليست ردًّا عاطفيًّا على حادثٍ عارض؛ إنما حصيلة كبتٍ طويل وتنكيل مُتّصل بالكرامة؛ لذا فقد لا تنفع معها التدخُّلات الجراحية مهما كانت دامية. أقصى ما يُمكن أن تفعله إسرائيل لن يكون جديدًا، واختبره الفلسطينيون وعاشوه كثيرًا؛ لكنهم اليوم يطرحون أوراقًا لم يعهدها العدوّ منهم. إن كانت فى ذلك رسالةٌ فهى أن يتوقَّف الاحتلال عن سياسة القمع والإذلال، ويستوعب أن القضية غير قابلةٍ للتصفية بالعنف والإلغاء.. قد يرى «نتنياهو» فى الهياج فرصةً لرصّ الصفوف، وقد يُمعن فى التشدُّد إلى حدِّ المُغامرة بأسابيع برّية قاسية؛ على خلاف عقيدة «الحروب الخاطفة» التى تُحبّها إسرائيل، ولن يُقصِّر فى تفعيل البُكائيات ومُزايدات الصور، للتدثُّر بالمظلوميّة وتشويه المُقاومة؛ لكنّ ذلك لن يُحسِّن الموقف. ذهبت الفصائل للمُواجهة وهى تعلمُ أنها ستعود بأنفٍ نازفٍ، وتحتاج «تل أبيب» لشىءٍ من الإيمان بأنها كلَّما أغلقت أبواب الحياة على الفلسطينيين، تجعل الموتَ خيارًا سهلاً ومحلَّ ترحيبٍ منهم، والالتجاءَ لجبهاتٍ مُعاديةٍ براجماتيّةً مقبولة، وإن تناقضت عقائديًّا مع الغلالة السارحة على وجه الإقليم، وفى حرب الشرايين النازفة تحتاج لحمايةِ قلبك أكثر من طَعن الآخرين، وفيها قد يخسر الأكثر حرصًا على نظافة ملابسه.
يدفع الفلسطينيّون ضريبة الدم سِلمًا وقتالًا؛ لذا لن يختلف التصعيد لديهم عن التهدئة. الخسارة فى إسرائيل، البلد العائش على تخليق الردع الاستباقى، وتحت زخّات «طوفان الأقصى» سقطت التخيُّلات، وتهدّمت سرديّة المَنعة والسياجات الآمنة. العملية مُنسَّقةٌ بكفاءة عالية: هجماتٌ مُتزامنةٌ من عدّة محاور، وسيطرةٌ على ساحةٍ فسيحة، وتنوُّع فى التسليح، ومئاتُ المقاتلين بقدرات مُتقدّمة فى الاقتحام والمناورة، وإيقاع الخسائر ثمّ العودة بأسرى. والدلالات: مُفاجأةٌ تكشف عن تفوُّق استخباراتى للفصائل، وإزاحة للاستيطان من فراش الطمأنينة، ورسالة بأن هزيمة العدوّ فى المتناول. لا معلومة مُسبقة عن الضربة، وما وراءها من تدريبٍ وتخطيط ولوجستيّات، ولا فاعليّة للقبّة الحديدية ومقلاع داود، وقد سقطت الاستراتيجية الأمنية وانعكست المفاهيم بنقل الحرب للداخل العبرى. إنها بروفةٌ مُزعجة لما تُخبّئه جبهة الشمال لو التحقت بالحرب، وتطوُّر للاشتباك من النقطة صفر، وتعريةٌ لقدرات الاستيعاب والاستجابة، مع لجوء الاحتلال لبنك أهدافه المُعتاد من سحق المدنيِّين، بينما لم يعد الانتصار بعدد القتلى. وقعت الهزيمة فعلاً مهمّا تطرَّف الردّ، والتماسك الجَبرى تحت لافتة «إجماع الحرب»، أو دعوة نتنياهو لحكومة طوارئ بمشاركة المُعارضة، وذوبان خلافاته مع واشنطن، وإعلان غزة منطقةً عسكرية مُغلقة، والتحضُّر لتعلية تلال الركام والجُثث فى نواحى القطاع، لا شىء منها كافٍ لغسل عار «تل أبيب» أو رفع رايتها المُنكّسة. نوعية الثأر ومداه ينتظران اكتمال تعبئة الاحتياط، وحَصر الأسرى ومعرفة مصائرهم؛ إلّا أن الجحيم نفسه لن يردّ الشرف الضائع، وكلّما توحَّش يُهدّد بانفتاح جبهات جديدة.
يبقى دورُ مصر المُبادِر، واتصالاتها الواسعة، ومحاولات وقف التصعيد بوساطات إقليمية ودولية مُتداخلة، خُلاصةَ الأمل فى مَخرجٍ أقلّ إيلامًا لكل الأطراف. ليس من مصلحة «تل أبيب» أن تتّسع الحرب على ما فيها من تبعاتٍ أمنية وأخلاقية، والتمادى فى الخشونةِ قد يُطلق شرارةَ انتفاضةٍ عامّةٍ وعارمة، أمّا «غزّة»، المُكبَّلة بديموغرافيا خانقة، فلا تحتملُ انفلاتَ آلةِ القتل الوحشية، بينما لم يعد التهديد بالدم والنار مُجديًا، وقد جعلته إسرائيل طقسًا يوميًّا تتعاطاه مثل فناجين الشاى والقهوة بين الوجبات.. الاحتمالات تُرجّح صدامًا مفتوحًا، والمصلحة تقتضى الاحتكام للعقل، واستيعاب حاجات الفلسطينيين وتطلُّعاتهم، والذهاب لتهدئةٍ لا تقف على حرفٍ بين ألاعيب الاحتلال واستقطابات الفصائل. ربّما نكون حاليًا فى أبعد نقطةٍ من إطلاق مسارٍ سلمىّ على طريق ترتيب الصراع، أو إعادة حلِّ الدولتين للطاولة؛ لكن لا بديل عن خطوةٍ للوراء، وأن يستوعب الجميع الرسائل العادلة، ويتقدَّم المجتمع الدولى والأجهزة الأُمميَّة للعب أدوارٍ أكثر جدّية، وإنهاء حالة التواطؤ المُعزَّزة بانحيازٍ أمريكى صارخ، وبحث الأسباب بدلاً من التفرُّغ لحصار النتائج.. مهما استعرت النار فستخمُد لا محالة، ولن تكون آخر الحرائق؛ طالما ظل جرحُ فلسطين مفتوحًا، وظلَّ العالم شاهدًا على المقتلة، دون فعلٍ إلا إحصاء الضحايا، وتجريع المظلومين حبَّات المُسكِّن بين وقتٍ وآخر، ثم ترتيب الحلبة لصدامٍ جديد. من مصلحة القضية أن ينصرف عنها المُتاجرون بالعقائد والرايات السوداء، وهى حقٌّ إنسانى لا بعمامةٍ ولا بلحية، ومصلحة إسرائيل فى أن تُقلع عن التوحُّش وغواية «مصّ الدماء»، ولوجه الإنسانية واستقامة ميزان العالم يتعيّن استيعاب الدروس، والعلمُ بأن الزج بفلسطين فى الثلّاجة لا يحلُّ الإشكال، ولا يُقلِّص المخاطر؛ إذ الثلج حارقٌ تمامًا كما يحرق الجمر والنار، وإن بادرت لتذويبه، قهرًا وعنجهيّةً، فلعلّك تُغامر بأن يفيض الماء ويدهمك الطوفان.