على مدى أكثر من شهر وقلوبنا تدميها تلك المذابح اللإنسانية التي تقوم بها إسرائيل، بعد أن جن جنونها وفقدت السيطرة على قواها العقلية، وبعد أن ظهرت على حقيقتها التي عملت على إخفائها طوال خمسة وسبعين عامًا، ظهرت فيها أمام الغرب بمظهر المجني عليه وسط أعداء يحيطون بها من كل جانب، وأقنعت العالم أنها واحة الديمقراطية وسط دول تقوم على الديكتاتورية، سقط القناع الإسرائيلي وسقط معه آخر أمل للسلام في منطقة الشرق الأوسط في ظل وجود حكومة نتنياهو التي أصابها الهذيان والجنون، لا تفرق بين مدنيين عزل ومقاتلين مسلحين، ولا بين رجال وأطفال، ولا بين مراكز عسكرية و وبيوت ومستشفيات.
لكن على جانب آخر، يجب النظر إلى ما وصل إليه حال القضية الفلسطينية منذ أكثر من عقد من الزمان، بعد أن تراجع الاهتمام بها وكادت تصبح في طي النسيان، وانصرفت البلاد العربية كل إلى شأنه، وأصبح الفلسطينيون الذين تمسكوا بالأرض وعاشوا عليها هم من يعانون، بينما الغالبية هاجروا واستوطنوا بلادًا أخرى، والبعض الآخر من فلسطيني ١٩٤٨، قد أصبحوا مواطنين يحملون الجنسية الإسرائيلية، وقد ذابوا داخل المجتمع الإسرائيلي حتى أن منهم أعضاء في الكنيست الإسرائيلي، وهكذا أصبح من تبقى في الأرض الفلسطينية إما في رام الله يتعرض لمضايقات، وإما في غزة يتعرض لحرب من وقت لآخر، واعتقال وقتل وإهانات لا تحتمل، وأخذ الخناق يضيق شيئًا فشيئا حتى تفجرت الأمور كما هي الآن، ووصلت إلى إبادة جماعية تجري وقائعها أمام العالم الذي وقف عاجزًا أما الجنون الإسرائيلي المحموم .
لهذا فان ما يحدث في قطاع غزة على قدر بشاعته فانه أعاد القضية الفلسطينية إلى بؤرة اهتمام العالم كما لم يحدث منذ عقود، وفرض وجودها كما لم يفرض من قبل، وكشف الوجه الإجرامي الحقيقي لإسرائيل كما لم يُكشف منذ بدايات القرن العشرين، وانتزع تعاطف ملايين من البشر الذين عاشوا عقودا خلف خدعة إسرائيل المحاصرة .
من هنا أيضا، فان ما وصلت إليه إسرائيل من إرهاب وإجرام كما لم تصل إليه من قبل، يجعل مستقبل السلام الذي حاول الكثيرون أن يتجرعوه ويقنعون أنفسهم وشعوبهم بانه ممكن، حتى يتحقق السلام في منطقة الشرق الأوسط، في محاولة لحل تلك القضية – قد أصبح أمرًا مستبعدًا في ظل الحكومة الحالية التي توشك على السقوط، وعلى إسقاط مستقبل إسرائيل معها، وهذا ما كان يدركه رؤساء وزاء إسرائيل الذين أقبلوا على إقامة سلام مع الدول العربية أمثال مناحم بيجن وشيمون بيريز وإسحاق رابين ممن أدركوا خطورة استمرار الصراع العربي الإسرائيلي على مستقبل إسرائيل، وأن استمرار إسرائيل في حالة حرب سيوصلها إلى الفناء، وأن ما يمكن أن تحققه إسرائيل بالتطبيع مع الدول العربية مزاياه تفوق نتائج أي حرب، ونظرًا لما يتمتع به بنيامين نتنياهو من غباء سياسي سيودي بمستقبله السياسي وربما الإنساني فانه لم يضع تلك الفرص التي كانت سانحة أمام حكومته لتطبيع علاقات مع دول عربية كانت مقدمة عليه فقط، لكنه أضاع أي فرصة لتستمر إسرائيل كما كانت من قبل، فمن المستحيل أن تعود إسرائيل كما كانت، وحتى الإسرائيليون لن يعودوا كما كانوا، والمؤمنون بالسلام لن يعودوا كما كانوا .
أما بالنسبة لأهلنا في جحيم الحرب في غزة، فصحيح أن الثمن الذي يدفعونه غاليا وباهظا ومبالغا فيه، لكن استرداد الأوطان أغلى والحرية لا تتحق إلى بثمن غال، وليس هناك أغلى من الروح .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة